حنان جاد. كاتبة مصرية مقيمة في أمريكا
في نيسان/أبريل المقبل يبدأ مكتب الإحصاء الأمريكي التعداد السكاني الذي يجريه كل عقد من الزمان. جيشٌ من الموظفين، كتبة ومترجمون وسعاة بريد، ومتخصصون في تصنيف المعلومات يعملون على قدم وساق في هذا الإحصاء، المشاركة في الإحصاء إجبارية، والامتناع أو تقديم بيانات خاطئة جنحة يعاقب عليها القانون.
نفس القانون يضمن للمشاركين في الإحصاء الأمريكي سرية المعلومات وعدم استخدامها ضدهم بأي حال من الأحوال، لذلك رفضت المحكمة الدستورية العليا طلب ترامب إضافة سؤال عن المواطنة، فالإحصاء لا يهدف إلى عد الأمريكيين أو حتى المقيمين بشكل شرعي وإخافة وإقصاء غيرهم، بل إحصاء الجميع وتوزيع الميزانية الفدرالية حسب عدد السكان وحاجاتهم. اقتراحٌ آخر لترامب بإضافة خانة لتسجيل المسلمين رفض قبل أن يناقش. سؤال الديانة أُلغي من التعداد منذ عام 1950، ترامب لم يقترح إعادته بل تسجيل المسلمين فقط وهو أمر لم يجد أي ترحيب خارج دائرة المتطرفين البيض!
في الذاكرة الأمريكية لعب مكتب الإحصاء دوراً أثناء الحرب العالمية الثانية عندما أتاح المعلومات عن أماكن تواجد المهاجرين من أصل ياباني، مئةُ ألف.. رجال ونساء وأطفال تم جمعهم وحبسهم داخل معسكرات في صحراء كاليفورنيا في ظروف غير إنسانية لمجرد الشك في ولائهم. مكتب الإحصاء أيضاً خان الشرق أوسطيين من العرب والمسلمين، عندما أتاح معلومات عنهم أمام ما عرف بوحدة التوزيع الجغرافي التابعة للاستخبارات الأمريكية التي تأسست في أعقاب أحداث 11 سبتمبر.
الوحدة استخدمت المعلومات في التجسس على الشرق أوسطيين العرب والمسلمين، وبعد سنوات من التجسس تبين أنها لم تقدم شيء للأمن القومي الأمريكي فتم الغاؤها عام 2014، لكن ذلك لم يمنع منظمات مجتمع مدني تمثل أمريكيين من أصول شرق أوسطية، كمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية، منظمة الأمريكيين العرب، المجلس القومي الإيراني الأمريكي وغيرهم، من النضال على مدى ثلاثة عقود من أجل إضافة خانة جديدة للعرق داخل الإحصاء الذي يحمل فيه جميع الشرق أوسطيين تصنيف عرقي: (أبيض).
الاسم المقترح للخانة الجديدة (مينا)، اختصاراً لعبارة (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) بالإنكليزية، إدارة أوباما وافقت على إضافة الخانة الجديدة، لكن مخاوف من إساءة استخدام إدارة ترامب لها وضعها محل تساؤل من جديد، في النهاية لم يتوفر التمويل اللازم لإجراء الدراسات الأخيرة عليها من قبل مكتب الإحصاء لكي يقرها، تأجلت خانة مينا عشر سنوات أخرى. وأصبح على جميع الشرق أوسطيين أن يسجلوا أنفسهم في إحصاء ابريل المقبل في خانة العرق الأبيض، البعض يرحب فهي في النهاية خانة آمنة. البعض الآخر يشعر بعدم ارتياح وبشيء من فقدان الهوية عندما يدعو نفسه، أو يدعي أنه أبيض.
خلال إحصاء هذا العام من المتوقع أن يظهر البيض لأول مرة كأقلية، وهو أمر قد يزيد من غليان جماعات التفوق العرقي. لقد كان البياض يوماً شرطاً للسماح بالهجرة والمواطنة في أمريكا! البياض الشاهق، الأنجلوسكسوني والجرماني حصراً، الإيطاليون والإسبان واليونان وحتى البولنديين لم يكونوا بيضاً كفاية قبل القرن العشرين، كريستوفر كولومبس لم يكن ليحظى بالمواطنة قبل أن يتخلى الأمريكيون عن وصف المهاجرين الإيطاليين بالزنوج البيض.
الجينات في مواحهة الإحصاء الأمريكي
لكن الظروف تغيرت، إلى الحد الذي دفع مؤخراً مواطن أمريكي شديد البياض إلى تسجيل نفسه أسود، لأسباب عملية، فقد أراد أن يستفيد من أحد برامج التمييز الإيجابي التي تعطي أولوية لأصحاب الأعمال الصغيرة من السود في الحصول على التعاقدات الحكومية. وعندما رفضت غرفة التجارة منحه أولوية التعاقد بناء على بياض بشرته رفع قضية وكسبها بعد أن قدم تحليله الجيني الذي يحتوي على 5% جينات سوداء، فالقانون لم يحدد نسبة معينة من السواد في المتقدمين! يقول الرجل إن الدعم على أساس العرق مثل الحرمان على أساس العرق كلاهما ظالم.
في المقابل تعرض زعيم جماعة النازيين الجدد لاختبار جيني مفاجئ على الهواء في أحد البرامج، فتبين أنه أيضاً يحمل 5% جينات سوداء. الخبر نزل عليه كالصاعقة! كأنه تعرض للخيانة! ظاهرة التحليل الجيني للمكونات العرقية التي أصبحت موضة وتجارة رائجة وهدية مع تخفيض معتبر في عيد الأم وعيد الأب انهت أسطورة النقاء العرقي، كل الناس خليط من عدة أعراق، لكن أمريكا ماتزال مربوطة إلى خانات التصنيف العرقي التي تطل من كل ورقة رسمية وليس فقط التعداد السكاني!
مواد أخرى للكاتبة:
الرد بالأدب على محاولات شيطنة اللاجئين
سؤال “بريء” يؤدي إلى ترحيل اللاجئين من أمريكا