نيرمينة الرفاعي.
يناقش كتاب “بين الإله المفقود والجسد المستعاد” الصادر عن بيت المواطن في صفحاته الـ 154 اختلافات مدلولات كلمة الله في الواقع السوري الراهن.
فعلى الرغم من توّحد الصورة اللغوية إلّا أن تعددية المعاني الدينية والأيدولوجية والاجتماعية والنفسية تعالت منذ بدايات الثورة السورية في شعارات وهتافات صادحة: “يا الله، مالنا غيرك يا الله”، مكمّلة تاريخ الكلمة التي كانت عبر الزمن سببًا للاختلاف والفرقة أكثر مما كانت للوفاق والسلام والمحبّة.
عن الوضع السوري الراهن يتحدث الراهب اليسوعي والكاتب نبراس شحيّد محاولاً تفسير النداءات إلى “الله” في ظلّ النظام المسرف في القتل والآفاق السياسية شبه المغلقة والمجتمع الدولي العاجز عن إيقاف شلال الدم، ويبتعد عن تجمّد الدلالات الدينية والتصنيفات المعتادة فيصل إلى تفكيكات لغوية جديد وتفرعات غير متوقعة لكلمة الله.
ثم يتذكر في حديثه أنَّ للموت أشكالاً وأسماء متعددة، فيدرك فجأة أن كثرة الأسماء ليست حكرًا على الله فقط، فالموت أيضًا له أسماءه، فبين الموت تحت التعذيب والموت تحت القصف والموت جوعًا والموت من شحّ الدواء ينساب الموت في تفرعاته الكثيرة مقسمًّا البلاد وممزقًا إياها نحو المزيد من الفرقة والاختلاف.
وتستمر أصوات الانفجارات والتكبيرات والدعاء بالارتفاع في السماء مقلقلة الصمت الأزرق الذي يستقبل دون مانع من هتفوا له قائلين: “على الجنة رايحين شهدا بالملايين”، وتدور التساؤلات عن احتمالية فراغ عرش الله الذي لا بدَّ من أنَّه سكن في الأجساد المهشمة والجلود المتفحمة والحناجر المبتورة!
وما بين جدلية الألم وجدلية الفراغ والحضور تنطلق صرخات الثورة مجددًا متجلّية بكثير من الأمل في القصص التي تدور في دمشق وريفها وضواحيها، فيرسم الكاتب هنا الله بشكل جديد في قلوب أشخاص لا يؤمنون بوجوده، ولكنّهم يهرعون إلى إسعاف الجرحى وتأمين العائلات وشراء الأدوية، دون إيمان يحرّكهم ولا جنّات موعودة تغريهم ولا حتى مجرّد عزاء ديني يواسيهم بالعدالة الالهية التي سمعوا بها ولم يروها.
“لمَ لا تفعل شيئًا يا الله”؟
بين الجنة والعدم والثواب والعقاب ترتحل شعارات السوريين ما بين “وحيد وحيد وحيد، الشعب السوري وحيد” وما بين “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”، فتسقط جميع الأجوبة الفلسفية واللاهوتية العاجزة عن إيجاد جواب مقنع للسؤال: “لمَ لا تفعل شيئًا يا الله”؟
وفي ذروة التحوّلات التاريخية، تنهار التوازنات القديمة وتتعاظم الظاهرة الدينية والشكّ فيها في ذات الوقت، وتتكون فجوات لا يمكن ردمها في القلوب، وتستمر الهتافات بالبحث عن الله، إلى أن يصل الإنسان إلى ذاته المنفردة البسيطة وهويتها الأصيلة. فبعيدًا عن التحليلات السياسية وتشوّه وجهات النظر الإعلامية، يتحدث شحيد عن فقدان المعلومة الحقيقية لقيمتها، فالمعلومة تصبح مجرد وسيلة لتبرير مواقف سابقة أو لاحقة، وتمتد هذه المعلومات “غير الحقيقية” لتطال السماء والأرض وما بينهما، ويعجز الإنسان السوري عن إيجاد الحقيقة في الواقع الفوضوي الغارق في تناقضاته ما بين إجرام النظام وهشاشة المعارضة وتطرف الإسلاميين.
وخلال غوص الكاتب في نفسية الفرد السوري في الوضع الراهن يستذكر بشيء من الرعب قصة “مهندس المحرقة”، أودلف انجمان، الذي كان وراء الكثير من جرائم الإبادة النازية، والذي تبين خلال محاكمته ببساطة متناهية أنَّه مجرّد إنسان عادي، فلا ميول إجرامية لديه ولا انحرافات ولا جنون ولا أمراض نفسية، ويتسائل بشكل غير مباشر عن كم من أودلف انجمان سوري عادي في الوقت الحالي؟ وكم يمكن للإنسان أن يكون عاديًا في ظروف غير عادية؟
بين أمشاط الرصاص على الصدور والجثث على الأرض والغضب الأرعن الذي يقود الموقف في سوريا حاليًا:
يؤكد شحيد على ضرورة إنتاج ثقافة مواطنة جديدة، ثقافة لا تنسى يومًا كم من الحياة توالد من رحم الموتى الذي تقاسموا توقهم إلى الحرية بين غناء الساروت وورود غياث وصور باسل شحادة وجدران السجون.
وبين الحاجة إلى الانتقام والحاجة إلى المطلق الذي لا يعترف بالآخر ترسم حكايات القتل الأولى تاريخها منذ قتل قابيل أخاه، وإلى اليوم حين ترتفع شعارات “إلى الأبد أو نحرق البلد”، مرورًا بالموت المرسوم على لوحات ماريان شتوكس وادوارد مونش، وليس انتهاءً بالموت دون جنازات والجثث التي لا أسماء لها، والحوارات حول التوابيت والحلوى والبقلاوة التي توزع على الناس في كرنفالات الموت والتي كانت كلّها ترسم أسئلة لا إجابات لها حول فلسفة الإله غير المفهومة.
ومع التجييش الديني والعاطفي وتنامي التيارات الدينية في الثورة حاول شحيد أن يبحث في الروايات المسيحية القديمة ورسالة القديس بولس إلى أهل روما بل حتى أنَّه كراهب متدين لم يمانع البحث في أفكار نيتشه الذي أمضى حياته في معاركة الفكر الديني وتحوّلاته، ربما هي طريقة الكاتب في كسر صورة “العدو الوهمي المتخيّل” التي سيطرت على البعض والخروج من المتاهات التي ورطتنا بها الأصنام المقدسة وأفكارها الجاهزة للاستخدام جيلاً بعد جيل.
“مداعبة على جسد حبيب قد تزلزل عرش الدكتاتور”
مرورًا بالكثير من القصص الموجعة يعود الكاتب إلى البحث عن الأجساد المفقودة، تلك التي رحلت بحثًا عن شكل ووجه واسم لله، ويحاول استعادتها عبر الامتداد في الأصوات والحكايات والثورة التي لا تقبل بمحدودية واقعها، مازجًا الحاضر بالماضي بالمستقبل الذي يؤمن بأنَّه سيكون أفضل.
سمّى نبراس شحيد أحد الفصول الأخيرة “مداعبة على جسد حبيب قد تزلزل عرش الدكتاتور”، و”لا نعرف من قصته إلّا امتداد الجسد المبتور”، مكتفيًا بالحب كجسر يصل الآلهة بالأجساد المفقودة التي لا نهاية لامتدادها، تاركًا الكثير من الاسئلة لحيادية الموت المطلقة وعيون الموتى التي تحمل الحقيقة الأخيرة التي لم ندركها، نحن الذين يسموننا أحياء، بعد.