خاص أبواب – القسم الثقافي
تسرد الروائية السورية روزا ياسين حسن، في روايتها الموسومة بـ “الذين مَسّهم السّحر”، سيرة الحدث السوري منذ انطلاقة ثورة السوريين في آذار/ مارس 2011 وحتى 2013، مُحاولةً توثيق أحداث الثورة وشخوصها، التي اختارتها من مختلف أطياف المجتمع السوري، ومن بقاع متعددة من البلاد، لتقدم صورة شاملة عن واقع سوريا وآلة الحرب الدموية التي تطحنها، في أكثر من أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، وعبر أربعة وثلاثين عنوانًا.
تختار صاحبة “نيغاتيف”، المقيمة في هامبورغ-ألمانيا منذ 2012، عنوانًا فرعيًا لعملها -الصادر مؤخرًا عن منشورات الجمل، بيروت/كولونيا- هو “من شظايا الحكايات”، يتبدى معبرًا عن البناء الفني للرواية من جهة، والحكايات الكثيرة الملتقطة من جهة أخرى. منتهجةً تقنية “التشظّي” الزماني والمكاني، و”التقطيع” و”تعدّد الأصوات”، تاركة حركة السرد في دوران مستمر بين الرواة المختلفين، والأماكن المختلفة، لمحاولة إحاطة الحكاية من مختلف الجوانب.
سحر الحرية المنشودة..
ترمز روزا إلى حماسة المتظاهرين السلميين ضد نظام الأسد، وكيف كانوا يقتحمون غمار الموت المتربص بهم، ساعين إلى التحدي والشهادة، فيبدون كَمن مَسّهم سحر ما، يخرجهم من طور إلى آخر، وكأن حالة السّحر تُعدي الجميع وتؤثر بهم، فترى الناس أفواجًا من الممسوسين بعشق الحرية المنشودة يهتفون لها ويسعون للخلاص.
تبدأ الرواية من جرمانا، الضاحية التابعة لمحافظة دمشق، وغير البعيدة عن الغوطة الشرقية، حين يحاول (ميفان حاجو) فتح الكافتيريا، ليبدأ بالشتائم باللغة الكردية، فالمطر يملأ أرضية الكافتيريا، ويُغرق السجادة العجمية التي تزيّن المحل.
جرمانا هي المدخل للرواية، إذ منها، وبدءًا من تلك الكافتيريا، ستدور الروائية بالقارئ لتفتح أمامه الأبواب التي تكمن خلفها بقية شخوص الرواية، وحكاياتهم.
ومن (ميفان) إلى الصديقات المختلفات بالانتماء: الفنانة التشكيلية (ريما العيساوي) القادمة من اللاذقية، و(هبة حداد) المسيحية التي تقع في غرام شاب مسلم، و(مريم محمود) القادمة مع زوجها (صفوان الشيخ) هربًا من حمص.
تخرج الشخصيات تباعًا، لا لنتعرف على حيواتها، بل لنتعرف خصوصًا على مواقفها ودورها مما يحدث الآن في البلاد.
(ريما العيساوي)، الفنانة التشكيلية المنخرطة في أولى التظاهرات في دمشق، مع صديقتها (هبة حداد)، وصديقها (فراس الصفدي) الذي كان زميلها في كلية الفنون التشكيلية، قد مَسّها السّحر منذ بداية الثورة، وقررت ترك لوحاتها وانشغالها بالرسم، والتوجّه صوب عوالم أخرى، تكون فيها فاعلة مباشرة.
تتغير حياة (ريما)، حين تلتقي (خالد الساعي) عبر صديقيها (فراس) و(هبة)، وتحدثه عن أهمية توثيق الثورة، ويعدها هو بتزويدها بالقصص كطبيب تحصل معه قصص كبيرة في كل يوم، لتعثر (ريما) على معنى حياتها الجديدة: “شعرت اليوم بأني اكتشفت ما أريده، أريد أن أصور كل شيء: أن أسجن اللحظة في لقطة”.
(ريما) القادمة من اللاذقية، تتعرض للنبذ من أهل البلدة، الذين يقف غالبهم مع النظام.
وعبر سياقات متعددة في السرد، تقودنا شظايا الحكايات إلى مشهد عميق وموجع، حين تذهب (ريما) إلى عزاء أخيها، الذي قتله الثوار، وتواجه ذلك الكم الهائل من الكراهية. يحتويها والدها الذي كان قد طردها لأنها وقفت في صف “الإرهابيين” (الثوار) الذين يريدون قتل أهلها، لكن زوجة عمها توبّخها أمام الملأ، وتصرخ بها: “انبسطتِ!؟ مات خيك… ومن قتله؟ الإرهابيون الذين تدعمينهم يا خائنة، تقفون بجانب الذين يقتلون شبابنا يا خونة”!.
تعود (ريما) إلى دمشق منكسرة بفقدان أخيها (مهند)، وتتعرض علاقتها العاطفية للفتور، فيشعر (خالد الساعي) حبيبها من المليحة (البلدة المجاورة لجرمانا والثائرة على الأسد) بـ “تلك المسافة المزروعة بالشوك التي راحت تتنامى بينه وبين (ريما) منذ مقتل أخيها”. ويرد على (هبة)، صديقتهما المشتركة، التي تقول له: “الثوار قتلوا أخاها، وأنت منهم بشكل أو بآخر، لكن أقرباءها قتلوا أيضًا أقربائي ولم أكرهها”، وترد هبة: “الأمر أعمق من ذلك! إنه أخوها الوحيد يا خالد، ثم هي مازالت في صفوف الثورة. ربما لو كانت امرأة غيرها لتركت نشاطها المعارض من وقتها”.
طبقات المسحورين بغواية العصيان..
يخلق العصيان وسحره آثارًا سلبية في العائلات والصداقات بين السوريين، إنه الانقسام في زمن الثورة، الانقسام إلى موالاة للنظام ومعارضين له.
وتروي صاحبة “حراس الهواء” حكايات سوريين آخرين ممن مَسّهم السّحر، (صلاح عباس)، المعارض العلوي من حمص، الذي سُجن لمدة إثني عشر عامًا في تسعينات القرن الماضي. والذي يعاني أيضًا من الانقسام العائلي.
و(أبو الليث) “السني” من بعلبة، و(أبو جعفر) “العلوي” من الزهرة، فعلاقتهما معتّقة، “تشبه تلك العلاقة القديمة كنبيذ معتّق بين أطياف السوريين”، وهي تستمر على رغم الاقتتال والتحريض الطائفي، إلى أن ينجح النظام بتحويل القضية إلى حرب، كما يقول (أبو الليث) متحدثًا عن مقتل السائق (وليد): “كيف سأقنع شبابنا ألا يأخذوا بالثأر؟! … ثأر وراء ثأر، موت وراء موت، وسنجد أنفسنا في حرب شعواء لا نعرف نهايتها”. ومنذ ذلك اليوم، حين يطالع (أبو جعفر) ثلاث جثث، بينها جثة الشاب (جعفر)، المعفّر بالتراب والدم، تنقطع العلاقة، تلك التي عمرها سنوات طويلة، بين الرجلين، (أبي جعفر) و(أبي الليث)، تمامًا كما انقطعت الدروب التي تصل بين حارتيهما.
وتُنهي روزا روايتها وهي تورد طبقات المسّحورين بغواية العصيان، غير مستثنية أي سوري، لتشمل الجميع: “كلنا، المعارض للنظام والموالي له ومن بينهما، الأبيض والأسود والرمادي والملّون، كلنا مَسّنا السّحر، وسيبقى يلاحقنا كذاكرة ملحّة”.
تُنهيها من حيث بدأت كتابتها من مهجرها، في مدينتي كولونيا وهامبورغ الألمانيتين بتثبيت المكان، كما أنها بدأت الرواية متوجهة بالشكر إلى كل من مؤسستي “هاينريش بول” و”هامبورغ شتيفتونغ”، إذ لولا دعمهما، ربما، لما أبصرت هذه الرواية النور، كما تقول روزا ياسين حسن.