روزا ياسين حسن*
يتّفق معظم الأنثروبولوجيين أن الشعوب العراقية القديمة (الآشوريين) هم أول من فرض الحجاب على المرأة. فالنصوص الأولى المكتوبة والتي تمثلت في شريعة حمورابي، وقبلها بوقت قصير في الملحمة البابلية الشهيرة: الإينوماإيليش 3200 ق.م، عملت على تكثيف التحولات التي قوّضت السيطرة الأمومية وقلبتها إلى سيطرة ذكورية كاملة، وذلك حين مجيء حمورابي إلى عرش بابل وبسط سيطرته على معظم المدن المجاورة ليخضعها لثقافته الجديدة التي أطلق عليها: الأدنون والأعلون.
ميّز حمورابي “البغايا المقدّسات” في بابل في طبقات، وكان عليهنّ تحت قانونه أن يتزوّجن من آشوريين فحسب، وأن يبقين محجّبات في الشوارع. فكان على الأرامل والزوجات والنساء الآشوريات الحرات أن يسترن رؤوسهن في الشوارع، أما المومس والعبدة فلا تحجّب نفسها، ووضع حمورابي عقوبات قاسية على أية جارية أو عاهرة تضع الحجاب حيث تجلد خمسين جلدة ويصب القار على رأسها.
من جهة أخرى كان البرقع (الخمار) مفروضاً على اليهوديات، وذكر ذلك في كتاب العهد القديم/ التوراة كما ذكر في كتاب العهد الجديد، حتى أن اليهوديات المتدينات مازلن يغطين رؤوسهن حتى اليوم ولو بباروكة شعر. وعندما سيطر الفرس على بلاد الآشوريين أخذوا عادة حجاب النساء عنهم، بعد ذلك انتشر الخمار والبرقع بين نساء بيزنطة وفارس وطروادة وإسبارطة وغيرها من الممالك والحاضرات القديمة.
وقد فرض اليونانيون في القرن الخامس قبل الميلاد النقاب على نسائهم، وكان بعض الأزواج لا يكتفون بذلك بل يضع واحدهم ختماً على باب بيته إن غاب عنه. عندما غزا المسلمون بلاد فارس وجدوا النساء معزولات في الحريم، ولا يظهرن على الرجال، فاقتبسوا الفكرة التي لم تكن موجودة ذلك الوقت في بلاد العرب، وصاروا يرغمون نساءهم على الاقتداء بالفارسيات، فغزا الحجاب قصور العباسيين في بغداد وانتشر إلى بقية المدن الإسلامية، على الرغم من أن الكثير من الأقليات الإسلامية لم تعترف به.
بيد أن النساء قبل الدعوة الإسلامية وأثناءها كنّ يغطين رؤوسهن لاعتبارات تتعلق بمناخ الصحراء وتقلباته، لكنهن كن يختلطن بالرجال في الحياة العامة، فقد ذهبت النسوة ليبايعن الرسول، وكن يزرنه ويجلسن معه ويذهبن إلى المسجد ويستمعن إلى الخطب ويناقشن بأصوات عالية ويجادلنه.
بشأن ذلك كتب الجاحظ في كتابه القيان يقول: إن السفور كان سائداً في زمن الرسالة بين نساء النبي ونساء الصحابة و(الله تعالى خلق من المرأة ولداً من غير ذكر، ولم يخلق من الرجل ذكراً من غير أنثى. فخصّ بالآية العجيبة والبرهان المنير المرأة دون الرجل، كما خلق المسيح في بطن مريم من غير ذكر).
أما الأدلة الدينية التي يدور حولها حديث الفقهاء والمفسرين فيما يخصّ الحجاب فتختصر في أربع آيات في القرآن، بدون أن ننسى أن تفسير القرآن بمعزل عن ظروف البيئة التي نزل فيها من شأنه أن يغفل أهم شروط التفسير ويحيد بمعنى الآيات عن مقاصدها.
ولتذكير القارئ فالآيات الأربع هي: آيتان مختصتان بنساء النبي فحسب وآيتان للمسلمات عامة. الآيتان المختصتان بنساء النبي هما الآيتان: 23 من سورة الأحزاب التي تأمر نساء النبي بأن: (قرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)، والآية الثانية هي الآية 53 من سورة الأحزاب التي تأمر المسلمين أن لا يدخلوا بيوت النبي إلا بعد أن يؤذن لهم (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن. وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً). أجمع المفسرون على أن هذه الآية خاصة بآداب زيارة المسلمين لبيت النبي وطريقة مخاطبتهم لزوجاته.
أما الآيتان اللتان تشملان المسلمات عامة فهما: الآية 30 من سورة النور التي تطلب من المؤمنين أن يغضوا أبصارهم ويحفظوا فروجهم (وقل للمؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين من زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن.. ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين منه زينتهن)، وقد اختلف المفسرون، بل وتناقضوا، حول المقصود من (إلا ما ظهر منها) و(الجيوب)، فالجيب باللغة العربية هو الطيّة، وهنا يعني تغطية طيات الجسم التي لا يبدو الرأس جزءاً منها! أما الزينة الظاهرة فهي التي خلقها الله دون زيادة عليها أو تغيير.
أما الآية الثانية التي تخصّ المسلمات فهي الآية 59 من سورة الأحزاب (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً). وهي تختص باختيار زي تلبسه الحرات ليتم تمييزهن عن الإماء فلا يتعرضن لمضايقات الرجال إن خرجن في الليل أو لقضاء حاجة. وقد جاء في تفسير الطبري في كتاب الشُعُب: (وكانت المرأة من نساء المسلمين قبل نزول الآية تبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار ويظن أنها أَمة، وحين شكوا ذلك للرسول أمر الله بإرخاء جلابيبهن عليهن).
حول ذلك يرى الصادق النيهوم في مقالة له بعنوان: من شجار في غرفة إلى حرب دولية، بأن دعوة المرأة المسلمة إلى تغطية شعرها، باعتباره عورة لا يجوز كشفها للرجال، فكرة لا تستند إلى نصّ إسلامي، بل تستند إلى نص الإصحاح الحادي عشر من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس والتي يقول فيها: (كل امرأة تصلي أو تتنبأ ورأسها غير مغطى تشان…)، أما لماذا تقتصر هذه الوصية على المرأة دون الرجل فذلك أمر مرده أن (الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده. أما المرأة فهي مجد الرجل)، فالكارثة التي تحيق بالمرأة تحت راية الإسلام بموجب قاعدة يهودية لا علاقة لها بالإسلام أصلاً، حسب رأي النيهوم.
في النهاية، لا شك أن الجدال حول الحجاب شائك، ولكن من الواجب على المرء في زمن سؤال الهوية والأزمة التي يعاني منها الإسلام في العالم، أن يطّلع على كل الآراء التي قد تخلخل معتقداته الجامدة باتجاه رؤية أكثر انفتاحاً ومرونة، لعلها تنقذ المسلمين حول العالم من مأزق الرفض والتشكيك بهم. ففي النهاية يبقى الدين بكل شعائره ودلالاته وأدواته، ومنها الحجاب، خياراً فردياً وعلاقة شخصية محضة وخاصة بين الإنسان وربه، فلا هو يفرض تفاصيل علاقته على أحد، وليس لأحد أن يفرض تفاصيل دينه عليه.
روزا ياسين حسن* روائية سورية مقيمة في ألمانيا
اقرأ أيضاً للكاتبة: