نور العجيلي – إيسن
في الوقت الذي تعتبر فيه داعش الصحفيين صيدًا ثمينًا فتتلذذ بتعذيبهم وقتلهم وتبث الرعب في قلب كلّ صحفي يحاول تصوير الواقع في ظل ما يسمى بدولة الخلافة، تخطى الصحفي والقاضي الألماني الشهير يورغن تودينهوفر كل الخطوط الحمراء لداعش وكل الحدود المسموحة لأي صحفي يحاول كشف أسرار هذه الدولة المنيعة كما يصورها التنظيم. وتمكن من التنقل بين معاقل التنظيم في مدينتي الرقة والموصل لمدة عشرة أيام، حيث عاين الواقع الذي يعيشه المدنيون في كنف دولة الخلافة، وقام بتوثيق رحلته المحفوفةِ بالمخاطر في كتابٍ صدر بعنوان “رحلتي على قلب الإرهاب”، بالإضافة إلى فيلمٍ مصورٍ على طريقة الفيلم الوثائقي لتلك الرحلة تم عرضه في السادس من شهر حزيران الموافق لليوم الأول من شهر رمضان المبارك في سينما Lichtburg في مدينة إيسن بعنوان “Inside IS” ويذكر أن ريع الفيلم مخصص لمساعدة أطفال غزة والداخل السوري.
كانت قاعة السينما مكتظةً بالحضور من مختلف الجنسيات المهتمين بمعرفة الحقائق المغيبة خلف أسوار داعش، بدأ عرض الفيلم بعرضٍ لكتاب الأمان الذي حصل عليه الصحفي ممهورًا بختم زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، والذي مكّنه من التجول بحريةٍ في أراضي التنظيم، حيث حصل على هذه الوثيقة (على حد قوله) من خلال مراسلاته المطولة مع أحد عناصر التنظيم وهو الألماني المسلم المعروف بأبي قتادة.
لعب أبو قتادة دورًا كبيرًا في زيارة تودين هوفر إلى داعش فقد كان صلة الوصل بينه وبين القيادات، كما كان الدليل والمرشد الذي تجول معه الصحفي من الرقةِ إلى الموصل.
ركز الفيلم في قسمه الأكبر على معاقل التنظيم في العراق وهيمنته الكبرى على مدينة الموصل، ثاني أهم معاقل التنظيم، وصور الحياة فيها، فقد بدت المدينةُ مكتظةً بالسكان، رغيدة العيش، وأظهر رضى الناس وسعادتهم عن العيش تحت سلطة داعش، فالتنظيم يوفر لهم ما يلزم ويحميهم من بطش الجيش العراقي والمليشيات التابعة له. وفي تعليق له على ذلك أكد تودين هوفر أن المدينة أُفرغت تمامًا من المسيحين والشيعة الذين هربوا منها خوفًا من أن يكونوا ضحيةً لسكين داعش، أما من تبقى فعليه الانصياع لتعاليم الشريعة التي فرضوها. إلا أن الفيلم لم يعرض سياسة التنظيم في الرقة والمعتمدة على الخطف والاغتيال والتنكيل بالمواطنين وتضييق الخناق عليهم من خلال ترهيبهم وتطبيق أقسى أنواع العقاب على أجسادهم، وأشار إلى ذلك إشارةً خجولة على لسانِ أبو قتادة الذي قال “إن المدنيين في الرقة لا يحبوننا”.
كما التقى تودين هوفر بعناصر التنظيم وتحدث إليهم وأعرب عن دهشته لرؤية أعدادٍ كبيرةٍ من الشباب يلتحقون يوميًا بصفوفه، جاؤوا من دولٍ مختلفةٍ كبريطانيا والسويد وبلجيكا وألمانيا ودولٍ أخرى، وصفهم بأنهم شبابٌ يافعون يملؤهم الحماس، ذوو نجاحات مذهلة، تركوا حياتهم وآثروا القتال تحت راية التنظيم.
ولدى سؤاله أحد المقاتلين عن سبب انضمامه للتنظيم، أجاب المقاتل بأنه يرى نفسه على طريق الصواب وأكد على أنهم يخططون على المدى البعيد لغزو روما والقسطنطينية وأمريكا.
ومن أهم الجوانب التي عرضها الفيلم كيفية تجنيد داعش للأطفال وإلحاقهم بصفوف القتال في عمرٍ مبكر بدلاً من ذهابهم إلى المدارس، وتدريبهم على القتال واستخدام شتى أنواع الاسلحة، كما حاول كسر الجانب النفسي لديهم من خلال تدريبهم على رؤية أقسى أنواع التعذيب من حرقٍ وقطع رؤوسٍ وجز أعناق وغيرها من الأساليب التي يتبعها التنظيم، وبالتالي يتجرد الأطفال من طفولتهم البريئة ويعتادون على رؤية ممارسات التنظيم دون أن يرف لهم جفن.
وبعد نهاية الفيلم دار حوارٌ بين الصحفي المغامر والحضور، حيث سأل أحد الحضور عن نجاعة الضربات الجوية في تقهقر التنظيم وزعزعة كيانه، وعن سبب هذه الوحشية المفرطة التي يتبعها التنظيم مع رهائنه وتهديداته الإرهابية للدول الأخرى، وعلى ذلك لم يكن على تودين هوفر إلا أن يعترف بقوة التنظيم وخطورته، فهو يعتمد على مقاتلين أقوياء وأشداء حيث يحشد مقاتليه غير آبهٍ بضربات التحالف الجوية، ولا يمكن مقارنته بسابقيه من التنظيمات والحركات الإرهابية كتنظيم القاعدة وحركة طالبان، حيث يسيطر على دولةٍ تعادل في مساحتها مساحة بريطانيا العظمى. ولن تجدي الضربات الجوية نفعًا في إلحاق الهزيمة به، ولن يدفع فاتورة هذه الضربات سوى المدنيون الخاضعون لحكم داعش فهم كما وصفهم لا حول لهم ولا قوة فالتنظيم يتغلغل بين المدنيين، حيث قال بأن عدد عناصر التنظيم لا يتجاوز 5000 مسلح في مدينة الموصل، والتي يبلغ تعداد سكانها ثلاثة ملايين نسمة وللقضاء عليهم فإن التحالف سيبيد مدينةٍ بأكملها، وأوضح أن مع كل قذيفةً تطلقها قوات التحالف سيزداد عدد الإرهابيين أكثر وهذا أمرٌ غير معقول. وعن سبب وحشية التنظيم وصف تودين هوفر هذه الوحشية بالوحشية المضادة لسياسات الغرب المعتمدة على القتل والتدمير في هذه البلدان، والحروب التي خاضتها الحكومات الغربية فيها.
كما بادر أحد الحضور بسؤالٍ للصحفي عن لقائه في العام 2012 الرئيس السوري بشار الأسد ولم تكن داعش قد وُجدت بعد، كما أن معظم الفصائل الأخرى بما فيها النصرة لم يكن لها وجود باستثناء بعض الفصائل التي تشكلت وسُميت بالجيش السوري الحر، فما هي الأسباب وراء ظهور داعش وفيما لو كان للأسد دورٌ بذلك، وهل يمكن وصف ما يجري في سوريا بأنه حربٌ أهلية ذات طابعٍ طائفي أم أنها ثورةُ شعبٍ ضد ديكتاتورٍ مجرم؟ فكان رد السيد تودنهوفر مقتضبًا و قال “لا أحد يهتم يا صديقي” فالعالم غير آبهٍ بما يريده الشعب السوري وقال إن الوضع في سورية هو ثورةٌ شعبية ولكن لن تحقق هذه الثورةُ مطالبها عن طريق السلاح فالحل المناسب لذلك هو إيقاف توريد السلاح للطرفين واللجوء إلى الحوار وطاولة المفاوضات -حسب رأيه-.
أراد الصحفي من خلال فيلمه تسليط الضوء على خطر داعش ورغبته المتعطشة لغزو العالم الغربي، فحاول لفت نظر مجتمعات بلادهم إلى هذا العدو المتربص بحياتهم ويتحين الفرص لزعزعة أمنهم واستقرارهم، وأن مهمة القضاء على هذا التنظيم تعتبرُ بمثابةِ تحدٍ كبير للمجتمع الدولي لمحو هذه الحقبة المظلمة من تاريخ الإنسانية.