لا تعشقي لاجئًا. ستكون جيوبه مكتظة بمفاتيح بيوت سكنها في رحلته، لا مكان للحلوى ولا للخواتم فيها. لن تعرفي ملامحه إلا إن أتقنت قراءة الخرائط، ما تحسبينه قهقهةً، ما هو إلا رجع أصداء القذائف، صمته الذي يقطر حكمة، هو الرعب المتحفز بعد رصاصة قناصٍ لم تصب الهدف، أمّا شروده المريب، فهو رصاصة قناص تالية، أصابت عينه ذات سعي وراء رغيف خبز.
تلعثمه الذي يضحككِ حين يحاول قول شيء لكِ، كان أغنيات تهدهدها الجدات في بلاده ويحفظها عن ظهر قلب، عن ظهر ما بقي له من قلب. بشرته الداكنة الآخذة بالابيضاض شوقًا للشمس لم تعدْ تصلحُ للمسة حنونة من فرط الندوب التي نجا منها، قد تجرحك الندوب، وقد يذبحه اضطراره لإخبارك كيف أصابته. عينه المعتمة محض انطفاء، ليست ليلاً ولا اشتهاءً ولا انتظارًا، هي محض انطفاء.
أساطيره التي يرويها عن بلاده وأبطالها هي كوابيسه كل ليلةٍ، أتصدقين أن ناجيًا من حرب سيكون الرجل المناسب لتقولي له: أحلامًا سعيدة؟
لن تري اللهفة في وجهه إلا لحظة استلام الإقامة، قد يبدو من غير المفهوم لكِ هذا الهوس بانتظار تلك الورقة، كيف يمكن أن تدركي أنّها الفارق البسيط بين تعريف “الشيء” و”الإنسان”؟ وبالمناسبة: لن تستطيعي مهما فعلتِ محو الخيبة، من ذات الوجه حين يعرفُ أنها لسنة واحدة فقط.
لا تعشقي لاجئًا. لن يستطيع أن يقطع “حدودًا” مهما كانت مفتوحةً بينكما، فقد عبر ما يكفيه أجيالاً منها.
في رحلته: راوغ رجال شرطة، وموظفي تفتيش، حتى فقد قدرته على مراوغة لحظة تمنّع.. كيف سيصلك رجلٌ لا يتقن مراوغة التمنّع؟
عانق أشجارًا لا أذرع لها لتعانقه، فألِفَ الوحدة حتى بات يخشى أمّه، هل عانقتِ إنسانًا بلا ذراعين من قبل؟ بلا أنفاس تعلو لحظة العناق؟
عرفَ الطين، لا كما يعرفه الفلّاحون الذين قرأتِ عنهم لحظة الشتل، ولا كما يعرفه أطفال الفقراء الذين ترينهم في الأفلام الوثائقيّة ساعات اللعب.. عرفه كما تحكيه قصص الخلق: عرف أنه مادته الخام، غفا فيه، راوده عن نفسه.. وكاد ينفخ فيه روحًا، لولا أنه أشفق عليه من أن يصير مثله: إنسانًا على طريق التهريب.
لا تعشقي لاجئًا. لا متسع لك، ولا لهداياكِ في حقيبته الصغيرة، ففيها شظايا قذائف وأطراف مبتورة وبقايا شوارع، مدراس لم يبقَ منها إلا الرصيف المجاور، أمهات لم يعرفن النوم منذ أعوام بانتظار ولد لا يعرفن إلى أي جحيم تم اقتياده، صور لأطفال حيّه لا تعرضها شاشات الأخبار في بلادكِ لأنها “خارج المعايير”، كيف يمكنه تفقد أطفال حيّه في غربته لولا صورهم التي لجأت معه مخالفةً معاييركم؟ أين سيضع حبكِ؟ أتستطيعن تخيّل حبك بعد عام من صحبة هذه المشاعر؟
لا تعشقي لاجئًا.. أو اعشقيه، إذا أردتِ بيتًا من الانتظار، صباحًا من نشرات الأخبار، بكاءً مفاجئًا بلا سبب، رقصًا مجنونًا بعد انتصار لن تدركي معناه، انتصار لبضعة رجال، وبندقيتين، في حارة صغيرة، أمضى طفولته وهو يلعب فيها.
اعشقيه إذا أردتِ معرفة توقيت مدن العالم التي حفظها ليعرف إن كان أخوته، وأصدقاء عمره المنثورين في بقاع الأرض قد استيقظوا أو بدأوا سهرتهم منذ قليل.
ربما.. إن عشقته، ستعيدين ملامحه إلى وجهه الذي كسته الخرائط، أو قد تجدين بقايا طين من رحلته، يصلح لبذار أحلام جديدة، أحلام تتجاوز النجاة من الوطن، أحلام تعيد تعريف الممكن والمستحيل. ربما، إن حدث وعشقتِ لاجئًا، ستعرفين أن ثمّة أشياءً كالهواء: الوطن، والانتماء، والأمان، والحلم. نحسبها متاحةً، متوفرة، حتى نغرق أو نلجأ. وحدهم الغرقى، يعرفون وجع فقدان الهواء، وحدهم اللاجئون، وأنتِ إن عشقتِ أحدهم، يعرفون وجع فقدان الوطن.