فادي جومر.
لم أتعلم النطق بعد، لا أستطيع حتى إصدار أصوات “المكاغاة”.. مغمضة العينين طوال الوقت، ويداي مضموتان إلى صدري، يغمرني الأمان أغلب الوقت.
أحاول ما استطعت أن أتلمّس ملامحي، فعيناي المغلقتان، لا تطيعانني حين أحاول فتحهما، سمعتُ أبي يقول لكِ، قبل أن يعلو صراخكما ويختنق في ذات اللحظة، إنك لو كنتِ شقراء بعيون ملونة لتدبر لك هويّة “مضروبة” وأرسلك بالطائرة بدل مغامرة البحر.
ومن يومها أحاول فهم كيف يكون الانسان أشقرَ؟ ما معنى هذا؟ ما طعم الشقار؟ أيكون بلا طعم وعليّ أن أتلمسه لأعرفه؟
ولأني كنت حينها بلا ذراعين ولا ملامح، فقد اضطررت للانتظار حتى نَمَت يداي، ونفرت ملامحي، لأحاول أن أطمئن إن كنتُ شقراء لأتمكن من السفر بالطائرة، فأنا لا أريد لطعم الملح الذي ظل يتدفق إلى شراييني أيامًا بعد تلك الحادثة، أن يستمر في التدفق إلى الأبد.. ولكني لم أعرف حتى اللحظة. كل محاولاتي لمسح ملامحي بيدي، لم تصل بي إلى أية نتيجة.
في اليوم العاشر بعد توقف الملح، صار للنبض الذي يخبرني عنكِ طعم المطر، كان ألطف من الملح، أقلّ رعبًا، لكنه ليس كمطر الأغنيات الحلو، تفزعني مرارته، رغم أنها أقل قسوة من الملح، لكنني ككل الأطفال، أنتظر الطعم الحلو يا أمي.
حين بكى أخي، لحظة هاجم رجال بثياب زرقاء كتفي أبي، عاد الملح للتدفق، لم يكن هذا منطقيًا بالنسبة إلي، هل وضعوا ثيابهم في فمك؟ أيكون كل أزرق بحرًا؟ مالحًا؟ ولم أعرف لمَ قال لكِ ذاك الشاب الذي ساعدك في حمل أخي، إنه يحسد الصغار لأنهم لا يفهمون ما يجري. أنا أصغر من أخي، ولكنني أفهم كل شيء.. طعم الأشياء كلها واضح في النبض، أتكون أمّ هذا الشاب قد قطعت عنه النبض؟ أقطعتِ النبضَ عن أخي؟ لماذا أفهم أنا طعم كل شيء وأخي لايفهم؟
في اليوم العشرين بعد الملح، همس أبي لكِ: “لقد تجاوزنا الحدود أخيرًا، وصلنا”، واختلط طعمان في نبضك وفيّ:
طعم الحدود: الجارح كجرعة خلٍّ على شفةٍ جريحة، القاطع كأوامر أصحاب الثياب الزرقاء، المتوتر كأبي لحظة أمسكوا أصابعه ليضغطوا بها على بحر أزرق صغير، غير مالح. لكنه زرع فيه خوفًا فاق خوفه من البحر الأزرق الكبير.
وطعم الوصول: المطمِئِن كقهوة ما قبل النوم، الفائض أملاً كطرقات أبي على جدار بطنكِ ليخبرني أنه اشتاق إلي، الحالم كإصبعكِ على أنف أخي.
في الأيام التالية، صارت الأصوات أعلى، والنبض صار أقلّ طعمًا، لم أعدْ قادرة على فهم كل شيء، لا أعرف ما هو طعم الـ “كامب” ولا طعم “صف انتظار الفطور” ولا طعم “التحرّش”.. كان يصلني القليل من طعم قهر أبي بعد أن تنامي، طعمه قاسٍ، لا أعرف إن كان هذا الوصفُ دقيقًا، أو صالحًا أصلاً لوصف طعم ما، لكن طعم قهر أبي بعد نومك كان قاسيًا في نبضك يا أمي، والمفارقة أن طعم ابتسامته ورضاه وأنت مستيقظةٌ كان غاية في الحنان في نبضكِ.
أكبرُ وأكبرُ وأصير أثقل، أشعرُ بالنبض يصير أثقل أيضًا، إنه الشهر الثامن في هذا الـ “كامب” الذي لم أستطع معرفة طعمه حتى اللحظة.. وإن كانت ثمة وخزات تأتي بنكهة طعام فاسد كلّما تحدثتِ مع جارتِكِ التي يفصلك ساتر قماشيّ عنها، تقول إنها هنا منذ قرابة العام، وأن القوانين تصبح أصعب، وأنهم لا يريدون المزيد من اللاجئين.. أتعرفين يا أمي، لهذه المفردة بالذات مزيج من طعم: الملح والضربات على كتف أبي، والحدود، وقهره أثناء نومك، ورائحة كرائحة أسئلة التحقيق.
هل قلتُ رائحة؟
أجل فقد بات النبض ينقل إليّ الروائح أيضًا، تعرفت مؤخرًا على رائحة الانتظار، رائحة الندم، رائحة الكراهية، رائحة الخجل، رائحة الاستجداء.. وغيرها الكثير.
في الأيام الأخيرة، صرت أسمع كل شيء، وحده السمع كان يصلني بالعالم الخارجي دون أن يعبر نبضك، أما الروائح والطعمات، فكانت كلها تأتيني عبر نبضك.. ولم أحاول أن أفتح عيني، إذ أن الملح الكريه صار يظهر كل يوم في نبضك، وأنا خائفة يا أمي، خائفة أن أفتح عيني وأعرف أني لست شقراء وأني سأنبض ملحًا كل يوم.
تقترب الجارة منك، تهمس: “إنهم يعيدون اللاجئين”.. يصير طعم النبض قيئًا، أشعر بالقيء في أوردتي.. ولا يشفع للجارة قولها: “اللاجئون الأفعان”. تردّ أمي: “اليوم يعيدون الأفغان، وغدًا سيعيدون السوريين، هل توقفت الحرب في أفغانستان يومًا؟ سيعيدوننا إلى الموت.. كما أعادوا الأفغان”. ويستمر القيء بالتدفق في النبض.
سمعت الطبيبَ يقول اليوم، إنّك ستلديني غدًا، لا أعرف كيف أخبركِ يا أمي، أنني لا أنوي الخروج غدًا، ولا بعد غدٍ.. أرجوك لا تلديني يا أمي، وأرجعي أخي ليتقاسم نبضك معي.. لا أريد أن أكون لاجئة.. لا أريد أن أنبض ملحًا في شرايين أطفالي.. لا أريد أن يعيدني أحدٌ إلى الحرب.. وقبل كل هذا، لا أريد أن أكون ابنتك، ولا ابنة أبي، أبحث بهدوء عن الحبل الذي عرفني على طعم الملح، المطر، الخل، الطمأنينة، القسوة، الحنان، الخراب، والقيء.. سأبحث عنه وألفّه حول عنقي.. لن أخرج إلى عالمك يا أمي، ولو كان الثمن أن يذيقني نبضك: طعم الموت.
فادي جومر. شاعر سوري مقيم في ألمانيا
اقرأ/ي أيضاً:
رحلة إلى قبور ثلاث شعراء مع الروائي فادي عزام
ساكن العربة
الدامج والمدموج والكامخ بينهما*