وداد نبي*
في العرض المتوفر على الساعة الثامنة وأربعين دقيقة بصالة السينما في برلين “بات مان × سوبر مان” بتقنية ثلاثية الأبعاد، كان عدد الحضور قليلاً وكافيًا ليبدو الجمهور كعائلة كبيرة، حيث بإمكان الجميع التفاعل مع أحداث الفيلم، اخترتُ وصديقي مقعدًا خلفيًا. بدأ الفيلم بصوت انفجارٍ ضخم، وهو ما دفع بي للارتجاف بحركةٍ لاإرادية، أنا التي لم أحضر فيلمًا منذ سنوات الحرب، وهو الأمر الذي جعل صديقي يضحكُ من خوفي هذا، إلا أنني أكدتُ لهُ بإصرار بأنني “لستُ خائفة” فهو مجرد فيلم أكشن، دراما سخيفة، هذا ما قلتهُ لنفسي أيضًا حين بدأت أحداث الفيلم تتوالى. فأي تأثير لهذه المشاهد المصنوعة باستديوهات ضخمة أمام ما عشتهُ يومًا ما هناك في سوريا من إثارة حقيقية ولعبٍ مع الكائن الذي لا يروض “الموت”، ورغمها خرجتُ من ذلك الفيلم (العرض) الحقيقي “حية” فتابعت الفيلم الذي كان ممتلئًا كأفلام الأكشن بأصوات الرصاص والانفجارات القوية، تلك الأصوات التي تجعلك -عبر تقنية العرض الثلاثي الأبعاد- تشعرُ أنك وسط ِالأحداث، وهو بالضبط ما دفع جسدي للانقباضِ مرات عديدة، والقيام بحركات ارتدادية لاإرادية تعبيرًا على الخوف فاضطر صديقي إلى أن يشرح لي مرة أخرى، كما لو كنتُ طفلة، أن ما يحدث الآن على الشاشة مجرد فيلم تم تصنيعهُ، خلفه ممثلون وآلات وأن لا مبرر لكل هذا الخوف، حاولتُ أن أشرح لهُ بسرعة أن الأمر لا علاقة لهُ بالخوف، فليس في الفيلم ما يسبب الخوف أصلاً، لكن هذه الأصوات القوية للرصاص والتفجيرات ترتبطُ بذاكرتي، بما عشتهُ في سوريا من أصوات قصف ورصاص وتفجيرات، الأمر كان لاإراديًا، شيء ما يقفزُ مباشرة للذاكرة مع كل صوت هنا في صالة السينما البعيدة الآمنة في برلين والذي يُعيدني لذاكرة وصوت عشته “هناك” بتلك الليالي والأيام القاسية بحربٍ لاتزال تدور فيها، ورغم كل شيء مازالت “الحياة” التي غادرناها هناك تستيقظُ فينا “هنا” في كل لحظة بكل ما عشناهُ من قسوة وموت، أعرفُ جيدًا أنني اليوم في “ألمانيا”، وأنني بأمانٍ من الطائرات والدبابات والقذائف ورصاص القناصة، وأنني لن أستيقظ يومًا على صوت وقوع قذيفة على بيتي، وأن كل شارع أعبرهُ سأقطعهُ ببساطة ودون خوف، ولن أعيش مرة أخرى ما عشتهُ وأنا أعبرُ معبر بستان القصر في حلب، “معبر الموت”، في أواخر عام 2013، تلك الدراما المذهلة، المرعبة، التي لا يستطيع أهم مخرجي السينما تصورها. كنتُ أستحضرُ بذاكرتي مشاهد سينمائية حقيقية داخل الفيلم “كنتُ أعبرُ مع كثير من السوريين معبر بستان القصر “معبر الموت” الذي يبلغ طولهُ نظريًا 600 متر تقريبًا، نعبرهُ مسرعين ونحنُ مدركون أن أي واحد منا قد يكون صيدًا سهلاً لقناص النظام، ورغمها نعبرهُ بكل عبثية الحياة في مواجهة الموت، ليست هناك إثارة في العالم توازي هذه، يطلقُ “صوت” رصاصة من مسدسٍ في الفيلم، فأستعيدُ صوت القناص الذي اخترق أذني دون أن يصيبني، شعرتُ بالرصاصة وبصوتها بالقرب مني، توقفتُ لأستدير ورائي حينما هتف بنا صوتٌ: اركضوا بسرعة، القناص أصاب اثنين! نظرت على عجل ورائي، الرجل الذي كان خلفي، هو الآن على الأرض، بدأت بالركض بأقصى ما في روحي من رغبة بالحياة، كانت الإثارة في أعلى منسوبٍ في معبر الموت ذاك، لم أكن قادرة على تخيل نفسي جثة تتعفنُ بطريق المعبر، لطالما شاهدتُ صور جثث ممددة في الطريق دون أن ينتبه لها أحد، حتى الهواء في تلك البلاد كان غير مبال بالموتى، ونجوتُ حينها لأن الخوف لم يتمكن من قلبي.
نجوت بعد ذلك مرات عديدة من القذائف التي كانت تنزلُ براحةٍ في شوارع وأحياء حلب، نجوتُ من رصاص القناص الذي كان يحوط بكل المفارق والطرق التي تفصل المناطق المحررة عن مناطق النظام، كان موضوع التنقل بين كوباني وحلب ضرورة حينها، ضرورة جعلتني في مرمى القناص ورصاصه، لأنجو في كل مرة من الموت، رغم أني اليوم وفي أثناء عرض الفيلم تيقنتُ أني لم أنجُ حقًا من الرصاص، الرصاص الذي تمكن مني، لدرجة أن صوت أي طلقة في فيلم سينمائي يجعلني أرتد خائفة ومذعورة كما حدث معي حينما عبرتُ معبر باب القصر، الأمر كان مضحكًا وقاسيًا، ولا إنسانيًا، وأنا أشاهدُ تفاعل الحاضرين الألمان مع أحداث الفيلم وضحكهم وصخبهم، كيف لهذه الأصوات أن تكون بالنسبة إليهم مجرد خدع سينمائية ممتعة؟ في حين إني لستُ قادرة على الاستمتاع بمشاهدة الفيلم دون أن أستحضر ذاكرة مليئة بالموت والقصف والرصاص! كيف نعودُ بشرًا طبيعيين وأسوياء كما كنا قبل الحرب؟ كيف نضحكُ كهؤلاء الشباب الألمان الجالسين بقربي؟ كيف أفصلُ حواسي عن ذاكرتها تلك؟ الذاكرة الذاخرة بالموت والطائرات والقصف والرصاص والأبنية المدمرة؟
كيف أتجنب مشهد تفجير بنايات كاملة في الفيلم؟ كيف أتجنب استذكار مشاهد أحياء حلب المدمرة وكوباني وحمص؟ كيف يمرُ مشهد الطائرة وهي تقصف بسلامٍ أمام عيني دون أن أصاب بذات الهلع القديم وأنا أعيد الاتصال عشرات المرات بأخي حينما أسمع صوت الطائرة يحلق في حي السريان باتجاه حي السكن الشبابي لترمي هناك البراميل المتفجرة؟ كيف أنسى كل ذلك الرعب اليومي الذي عشناهُ حتى نطمئنّ أن الطائرة أسقطت البرميل على بناية أخرى غير البناية التي يقيم فيها أخي؟! كم هي مريرة وبشعة فكرة أن تفرح ولو للحظات لأن البرميل أخطأ بناية ما وأصاب أخرى! أنقذ خطأ الطيار شخصًا تحبهُ، ليسرق حياة أخر يحبهُ أشخاصٌ أخرون!
لكنها كانت الحرب، وكل هذه الأسئلة لا قيمة لها أمام سطوة عبثية الحرب، لا أخلاق ولا إنسانية ولا مكان لأي تعاطفٍ إنساني معك ومع غيركَ، فيما الموت يحاصركم جميعًا، ويصطادكم واحدًا واحدًا ضاحكًا.
القذارة والبشاعة والقسوة التي خلفتها الحرب بداخلنا لن تمضي بسهولة، الأمرُ ربما يحتاجُ لعقودٍ طويلة من السلام حتى يشفى المرء من ندوبِ الحرب المدمرة لذاكرتنا البشرية، ربما سيأتي يوم حينما تنتهي هذه الحرب نكون فيه قادرين على متابعة فيلم سينمائي بمتعة وضحك وصخب، أن نضحك ونضحك على قدرة السينما على ابتكار كل هذه الواقعية السحرية بصنع مشاهد الخراب والدمار كتلك التي لا تحدث حقيقة.. إلا في بلدكَ البعيد الآن.
*شاعرة سورية