ضاهر عيطة
تهجر الأم الملكة طفلها لتهرب مع زوجها الملك عقب قيام ثورة ضده، تاركة مصير الطفل لخادمتها “جروشا” التي تتفرغ لتربيته ورعايته لسنين طويلة حتى تغدو الأم البديلة له، لكن بعد فترة من الزمن، تعود الملكة لتطالب الخادمة جروشا بطفلها، فتأبى الأخيرة التخلي عنه وقد تعلقت به إلى حد كبير، وحينما يشتد الصراع بينهما، تلجأان للمحكمة، فيأمر القاضي برسم دائرة بالطباشير القوقازية ليوضع الطفل وسطها، على أن تمسك كل واحدة منهما بطرف من ذراعه وتجذبه نحوها، ومن تستطيع إخراجه عن خط الدائرة ستحظى بأمومته، وبناء على ذلك راحت الملكة تشد الطفل نحوها، لكن الخادمة جروشا تشفق لحال الطفل وتحرر ذراعه، فتنتصر الملكة ويصبح الطفل من حقها، غير أن القاضي يفاجئ الجميع ويحكم لصالح الأم جروشا لكونها الأكثر حنانا ورأفة بحال الطفل، حيث لم يهن عليها إيلام ذراعيه بفعل عملية الشد. حدث هذا في مسرحية دائرة الطباشير القوقازية للكاتب الألماني الشهير برتوليت بريشت، فكرة المسرحية تكاد تحاكي مصير الطفل السوري بعد أن هجرته أمه الحقيقة “سوريا” أو دفعته إلى هجرها، ليجد نفسه في حضن أم جديدة “ألمانيا” تائهًا بين أم يتذكر منها الهجر والجرح والموت، وأم جديدة رمته الحروب والفواجع بين أحضانها، وبين هذه وتلك، تصلب مخيلة الطفل السوري، وتنتهك بنيته النفسية، وما من أحد يدله إلى أية أم هو ينتمي، ألتلك الأم التي تهشمت بين أحضانها طفولته؟ أم إلى الأم التي لجأ إليها كي يرمم فيها ما بقي له من طفولة؟ ومع هذه الحيرة يجد نفسه محاصرًا بدائرة تطبق على أنفاسه يومًا بعد يوم، وما من قاضٍ يأتي ليحكم في مصيره، كما سبق وأن حكم في مصير طفل بريشت لصالح الأم جروشا الأكثر حنانًا.
والدائرة التي نتحدث عنها هنا، هي تلك المعاناة التي تنهش روح الطفل السوري داخل المدارس الألمانية، حيث يجلس لساعات طوال في دروس التاريخ والرياضيات والفيزياء والجغرافية وغيرها من المواد التي تعطى جميعها باللغة الألمانية، وهو الذي لا يعرف عن هذه اللغة شيئًا، ولا يستوعب شيئًا مما يعطى، فيطبق عليه الصمت والعزلة نتيجة تجاهل التلاميذ والمدرسين له، مما يدفعه للاستغراق في ذكريات مدرسته القديمة، ليجد نفسه فجأة وقد صار بعيدًا عنها وعن رفاقه، ووحيدًا وغريبًا عن مدرسته هذه وعن تلاميذها، غير قادر على التواصل معهم، ولا هم يبادرون إلى التواصل معه، ليغدو كل طرف ينظر للآخر ككائن مجهول يستدعي الاقتراب منه كثير من الحذر والقلق، وربما الخوف.
يحدث هذا في المدرسة الواحدة والصف الواحد، وعلى مرأى ومسمع الكادر الإداري والتعليمي، دون أن يتطوع أي منهم للعب دور القاضي، ويحرر روح هذا الطفل الوافد من وطأة الدائرة التي تعاود نهشها لكيانه من جديد.
يلمس الأهل ملامح خيبة الأمل على وجوه أطفالهم أثناء عودتهم من المدرسة، ولهيب اشتياقهم لأصدقائهم وكتبهم ومقاعدهم في مدرستهم القديمة، لكونهم لا يشعرون هنا بأن المقاعد مقاعدهم، ولا التلاميذ زملاء لهم، ولا المعلمات معلماتهم، ولا الكتب كتبهم، كل هذا نتيجة لعدم تنبه الأم الجديدة إلى مقدار حاجة طفلها الوافد إلى حنانها ورعايتها، ما يؤدي إلى يقظة الحنين للأم الأولى، فتتمزق روح الطفل السوري بين هذه وتلك.
الفكرة هنا ليست استنكارًا لحالة الشعور بالغربة، فمن المعروف أن الطفل في عمر محدد ينتابه مثل هذا الشعور عند ذهابه إلى المدرسة للمرة الأولى، منتقلاً لبيئة اجتماعية جديدة مغايرة عن بيئة الأسرة، وقد يستمر هذا الشعور لأيام وربما لأسابيع أو شهور، وعادة ما يحدث هذا لدى الطفل وهو في عمر السادسة أو السابعة، لكن أن يعود الطفل السوري إلى البيت وقد تجاوز العاشرة من عمره أو أكثر، وهو يبكي نتيجة إحساسه بالغربة في صفوف مدرسته الجديدة، وبعد مرور شهور عديدة على انتقاله إليها، فهذا يعطي مؤشرات خطيرة، تشي بعدم كفاءة الأم الجديدة في رعايتها له.
فهل يا ترى ستبادر الإدارات في المدارس الألمانية لتفادي تضخم مثل تلك المشاعر لدى الطفل الوافد، وتشجع التلاميذ الألمان وتحثهم على اللعب معه ومشاركته في دروسهم ونشاطاتهم حتى لو بالإشارات والإيماءات؟ عسى تتكسر حدود الدائرة ويتحرر هذا الطفل من شعور الغربة الذي يدمر طاقته، ويجعله فاقدًا لروح المبادرة والمشاركة في النشاطات المدرسية.
فطالما أن المدارس الألمانية أرادت أن تصبح حضن الأم البديل لهذا الطفل، بعد أن اختارها قاضي الموت والحرب لتكون لها الأحقية في حضانته بدلاً عن الأم القديمة، لها أن تبتكر قاضٍ من لحم ودم، ليحكم في شرعية أمومتها، لافتًا انتباهها إلى حاجة طفلها الجديد إليها، وإلى مقدار لهفته وشغفه إلى حنانها ورعايتها، لئلا يستمر وقوفه وسط دائرة تمزق روحه وكيانه جراء صراع ما من غاية له سوى حب التملك، حب يساهم قدر ما يستطيع بنسف كل القيم الفنية والفكرية التي أوجدها برتولت بريشت في مسرحيته دائرة الطباشير القوقازية.