حسام الدين درويش*
“الاندماج”! ربما لم يعد لهذه الكلمة معنىً واضحٌ أو محدَّدٌ، لكثرة ما أصبح لها من المعاني المتنوعة إلى حد التناقض! لذا، من الضروري بدايةً الإشارة إلى أننا نقصد بالاندماج هنا تطبيع العلاقة بين الشخص ومحيطه الجديد، بحيث يتم قبول بل وتقبُّل كل طرفٍ للآخر مع التفاعل الإيجابي بينهما.
وعلى الرغم من السمة التفاعلية والتبادلية الأساسية للاندماج إلا أنه ثمة سمة أحادية أيضًا تتمثَّل في أن طرفًا (اللاجئ) هو بالدرجة الأولى من يُفترض أو ينبغي، في بعض الجوانب، أن يندمج في الطرف آخر (المجتمع المستضيف)، وليس العكس. وسأشير في هذا النص إلى أحد معاني الاندماج أو تجسداته (احترام القانون)، من جهةٍ، وإلى عقبتين أساسيتين تعترضانه، من جهةٍ أخرى.
يتناسب اندماج اللاجئ في مجتمعه الجديد طردًا مع درجة احترامه للقوانين المكتوبة و/أو المعمول بها في هذا المجتمع. ولا نقصد بالاحترام هنا مجرد شعورٍ باطنيٍّ يفتقر إلى سلوكٍ عمليٍّ يعبر عنه، بل المقصود بالدرجة الأولى ممارسةٌ واعيةٌ تعبر عن هذا الشعور وتعززه بقناعاتٍ وأفكارٍ متناغمةٍ معه. ويواجه تحقيق هذا الشكل أو التجسيد للإندماج عقبتين أساسيتين، تكمن أولهما في عدم سيادة ثقافة احترام القانون في البلدان “المصدرة” للاجئين، وثانيتهما في بعض الممارسات البيروقراطية السلبية في البلدان الأوربية التي “تستضيفهم”.
فبالنسبة إلى العقبة الأولى، لا بد من الإشارة إلى أن معظم، وربما كل، اللاجئين ينحدرون من بلادٍ لا تسودها ثقافة احترام القانون، لأسبابٍ كثيرةٍ يكمن أبرزها في وجود أنظمةٍ سياسيةٍ غير ديمقراطيةٍ لا تحترم القوانين ولا تفسح مجالاً كبيرًا لاحترامها. وفي المقابل، تسود في معظم البلدان الأوربية المستقطبة لموجات اللجوء ثقافةً عامةً تعلي من شأن القوانين واحترامها، ويتطلب ويفترض نظامها السياسي والاقتصادي وجود هذا الاحترام. ويتطلب اندماج اللاجئ في محيطه الجديد تغييرًا أو تغيرًا ثقافيًّا أو فكريًّا، بحيث لايرى في القانون أداةً ظالمةٍ لإخضاعه واستغلاله من قبل جهةٍ ما، بل ينبغي أن يرى فيه، عمومًا أو من حيث المبدأ، تجسيدًا فعليًّا، جزئيًّا ونسبيًّا على الأقل، لما يجب أن يكون. وهذا “التحول الثقافي” صعبٌ، لكنه ليس مستحيلًا على الإطلاق.
العقبة الثانية – المتمثلة في الممارسات البيروقراطية السلبية لمؤسسات الدول التي تستضيف اللاجئين – هي التي تزيد من صعوبة هذا التحول. والبيروقراطية ليست سلبيةً بالضرورة أو من حيث المبدأ، فهي تعني أوليًّا “حكم المكاتب”؛ وهي في كل الأحوال شرطٌ ضروريٌّ ولا غنى عنه لتنظيم حياة الناس في الدول والمجتمعات الكبيرة و/أو الحديثة. وضرورة البيروقراطية وأهميتها لتنظيم الحياة المعاصرة للإنسان لا تنفيان وجود مساوئ كبيرة وكثيرة لهذه البيروقراطية أحيانًا. وتبرز هذه المساوئ خصوصًا عندما تتحول البيروقراطية في الممارسة إلى غايةٍ في ذاتها لا وسيلةٍ لتحقيق غاياتٍ هي أساس وجودها أصلًا. فالبيروقراطية –بمؤسساتها وقوانينها وقواعدها والقائمين عليها – موجودة وضرورية لغاياتٍ محددةٍ يفترض أن تفضي إلى تيسير حياة الناس. وعندما يتم نسيان أو تجاهل هذه الغاية الأساسية والمبرر الأصلي لوجود البيروقراطية، تتحجر القوانين وتأخذ شك صنمٍ يتم تقديسه على الرغم من أنه لا يستحق لا عبادة ولا احترام. وعندما يواجه اللاجئون (وغير اللاجئين) القوانين في صيغتها المتحجرة، يصعب أن يقتنعوا بضرورة احترام قوانين تفتقر لأيِّ مسوِّغٍ أو أساسٍ معقولٍ، ولا تخدم الغاية المفترضة من وجودها. ولتوضيح ماسبق، أود الإشارة إلى القصة/الحادثة التالية.
انجبت امرأة (لاجئة) طفلًا وعندما أرادت تسجيله في البلدية، رفضوا الاعتراف بأبوة أبيه (اللاجئ) وتسجيله بكنيته؛ لأن الوالدين لم يبرزا عقد زواجهما. فقام الوالدان بإحضار ذلك العقد لاحقًا، فتم الرفض مجدّدًا، لأن العقد غير مصدق؛ وهذا التصديق يجب أن يتم في وزارتي الخارجية والعدل (السوريتين) ومن ثم في السفارة الألمانية في بيروت حصريًّا. حاول الأب تأكيد أبوته لطفله بطريقةٍ “ألمانيةٍ” أخرى، لعله يتخلص من هذه المشكلة، فقام بإجراء قانوني يسمى “الاعتراف بالأبوة”، وهو إجراء يمكن أن يقوم به الأب “الألماني” عندما لا يكون متزوجًا من أم الطفل. والطريف في الأمر هنا هو أن الاعتراف بالأبوة يعني ضمنًا الإقرار بأن الشخص أعزب وغير متزوج. وهكذا واجه هذا اللاجئ ضرورة الاختيار بين كونه أبًا وكونه زوجًا، بحيث يكون اختياره لأبوته هو في الوقت نفسه إنكارٌ رسميٌّ لزواجه. وقيل لاحقًا للأب اللاجئ إنه إلى جانب وثيقة “الاعتراف بالأبوة” ينبغي أن يحصل على وثيقة “الحق برعاية بالطفل”. لكن بعد حصوله على الوثيقتين، قيل له إن الأمر يتطلب الانتظار ثلاثة أشهر قبل تقديم هذه الوثائق إلى البلدية، مع العلم أن النجاح ليس مضمونًا حينئذٍ. فخطرت لهذا اللاجئ “الباحث عن أبوته” فكرةً ظن أنها تمثل حلًّا عبقريًّا وجذريًّا لمشكلته: بما إن المؤسسات الألمانية المحلية الرسمية لا تعترف بزواجه ومن ثم بأبوته، فلما لا يقوم بالتقدم بطلب الزواج رسميًّا من زوجته! وطرح اللاجئ “العبقري” هذه الفكرة على المسؤولين في البلدية، فجاءه الجواب الصاعق: “لا مانع، شرط أن يكون لدى كليكما أوراق رسمية تثبت أنكما غير متزوجين”.
رضخ اللاجئ المصدوم لحكمة البيروقراطية “الألمانية”، وقرر إرسال عقد زواجه إلى السفارة الألمانية في بيروت لتصديقه، لكنه علم أن هذا التصديق أصبح مشروطًا بأن يكون تصديق وزارتي الخارجية والعدل السوريتين على العقد قد تم بعد عام 2012 بالضرورة، وإلا فإن تلك السفارة لن تعترف بهذا العقد، وبالتالي لن تقوم بتصديقه. بعد الوصول إلى هذا الطريق المسدود، خاطر بعض معارف هذا الشخص بالحصول على نسخة جديدة من عقد زواجه من سورية، ومن ثم تمت ترجمتها وتصديقها من وزارتي الخارجية والعدل السوريتين، وإرسالها إلى لبنان ليتم تصديقها من السفارة الألمانية، بعد جهدٍ جهيدٍ وانتظارٍ طويلٍ. وبعد أن استلم اللاجئ “الملتاع” عقد زواجه المصدق رسميًّا، ذهب فورًا إلى البلدية طالبًا الاعتراف بأبوته، لكن البلدية رفضت قبول العقد لأنه مترجم في سورية، وطلبت إعادة ترجمته في ألمانيا.
أذعن اللاجئ لهذا الطلب الغريب أو غير المنطقي (هو غير منطقيٌّ، لأن التصديق على العقد تم بناءً على الترجمة في سورية، فكيف يتم قبول التصديق ولا يتم قبول الترجمة؟!)، لكن فرحته لم تكتمل أو كادت أن تختفي تمامًا عندما طلبت منه البلدية “إخراج قيد مدنيٍّ” له، للاعتراف بأبوته. فقدم لهم “إخراج قيد مدني” قديمًا ومترجمًا إلى الإنكليزية، فتم قبوله على مضضٍ، مع الإشارة إلى أنهم سيتسامحوا ويتساهلوا ويخففوا من قواعد بيروقراطيتهم، مراعاةً لوضع اللاجئين الصعب! وهكذا حصل الأب اللاجئ على الاعتراف بأبوته بعد عامٍ من ميلاد ابنه، وبعد أن أنفق و/أو خسر الكثير من الوقت والجهد والمال.
من الصعب أن نتخيل أن تنشأ، “بسهولةٍ” أو “بسرعةٍ” (على الأقل)، أي “علاقة عاطفية” إيجابية قائمة على الاحترام والقبول أو التقبل بين هذا اللاجئ وقوانين البيروقراطية (الألمانية) أو قواعدها واجراءاتها، عندما يمر هذا اللاجئ بمثل هذه الخبرات المحبطة وغير الضرورية. ودون وجود هكذا علاقة، يمكن أن يزداد أو يتعمق شعور اللاجئ لا بغربته فحسب، بل وباغترابه عن محيطه الثقافي الجديد أيضًا، بما يعنيه ذلك من تضاؤل إمكانية “نجاح” اندماجه المنشود بسرعةٍ.
ومن المهم الإشارة إلى أن تأخر عملية الاندماج يمكن أن يكون بحد ذاته عقبةً تمنع حصول هذا الاندماج لاحقًا. فثمة تناسب عكسي عمومًا بين بطء الاندماج وإمكانية حصوله، بحيث تضعف هذه الإمكانية عمومًا مع مرور الزمن.
القصة السابقة هي مجرد مثالٌ توضيحيٌّ للجانب السلبي من البيروقراطية “الألمانية”. وهو الجانب المتمثل في وجود تعقيدات غير ضرورية يصعب تسويغها والتعامل معها، ومشاكل يصعب وربما يستحيل حلها، بسبب تكلس القوانين والقواعد و/أو عدم المرونة و/أو الواقعية و/أو المنطقية في تطبيقها و/أو استحداثها و/أو تطويرها.
قد يرى البعض أن ما ورد في القصة لا يمثل قاعدةً يمكن القياس عليها للحكم على البيروقراطية الألمانية عمومًا. قد نتفق مع هذا الاعتراض المحتمل جزئيًّا، لكن ينبغي التشديد على أمرين هنا: أولهما هو أنه إذا كانت هذه القصة لا تمثل قاعدةً، فإنها لا تمثل استثناءًا أيضًا (ولدى معظم اللاجئين قصص كثيرةٌ مختلفةٌ عن معاناتهم من بعض جوانب البيروقراطية “الألمانية”)، وثانيهما هو أن سلبيات البيروقراطية “الألمانية” لا تظهر في التعامل مع اللاجئين فقط (فقد تظهر أيضًا في التعامل مع المواطنين الألمان أيضًا)، لكن إمكانية ظهورها مع اللاجئين أكبر من إمكانية ظهورها مع “الألمان”، ومن دون أن تكون العنصرية عمومًا سببًا رئيسيًّا أو حتى ثانويًّا لذلك. فالأمر متعلق بطبيعة البيروقراطية نفسها وبنمط تجسدها الألماني المفتقد للمرونة والسرعة الضروريتان في التعامل مع المستجدات المرتبطة باللاجئين.
وإذا كان صحيحًا أحيانًا القول “أن تصل متأخرًا خيرٌ من أن لا تصل أبدًا”، فقد يكون من الصحيح، في هذا السياق، القول “أن تصل متأخرًا قد يعني أنك لم تصل مطلقًا“.
(*) باحثٌ سوريٌّ زائرٌ في “قسم الاستشراق” في قسم الفلسفة في جامعة كولونيا.