د. محمد الزكري*
لا يكاد يدخل علينا ديسمبر وإلا نجدنا في خضم جدال حول الكريسماس، تفرزنا مشاداته إلى جماعتين متناحرتين. عند أحد الجماعتين يتلبد خطاب يقيم حجته على أن المشاركة بالكريسماس يعكس بعداً حضارياً ومدنياً، وعند الطرف الآخر يتكثف خطاب آخر يقول إن الاحتفال بمولد النبي عيسى بدعة دينية محرمة!
لا أنكركم الحديث إني كنت أحد الواقعين تحت تأثير هذه التجاذبات. سجيتي المتسامحة تدفعني إلى تقبل ثقافات الآخر، وثقافتي المتخشية تسقطني في وحل البدعة وتنصحني بعدم خوض غمار المعصية. انقسام فكري يخوضه أغلب المهاجرين في ألمانيا.
قمت بتجميع مقالات من يعتبر الاحتفال بمولد النبي عيسى بدعة دينية محرمة لمناقشة كل مقالة على حِدَةٍ:
المقالة الأولى: الكريسماس عمل لم يهتدي إليه الرسول ص، وهو خير البشر، فإذا فعلناه نحن ففيه شبهة الادعاء بإتيان عمل خير لم يفعله.
كلنا يعلم أن المنتجات الدينية الحديثة تصنّف كمنتجة سيئة، وتسمى بدعة، أو تصنّف كمنتجة جيدة وتسمى حسنة. فلقد أنتج الصحابة أفعالاً لم يمارسها الرسول ص فأثنى عليهم. فمثلاً كان أحد الصحابة عندما يؤم الناس في الصلاة يختم كل ركعة بسورة الاخلاص. وهذا ما لم يكن يفعله الرسول ص.
ورد في بخاري ومسلم قصة الصحابي الذي سنّ سنة حسنة في حياة النبي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إِنَّ النَّبِيَّ بَعَثَ رَجُلا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ لا يَقْرَأُ بِأَصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ، وتَعْنِي يَخْتِمُ، إِلاَّ بقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ فَقَالَ: سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّهُ.
وهناك صحابي آخر أنتج أدعية في الصلاة بصيغ لم يتلوها الرسول ص ومع هذا أثنى الرسول عليه. كما جاء عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِىِّ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ. رواه البخاري.
الذي فهمته من الحادثتين أن الرسول ص واسع الفهم بالطبع البشري، ويعلم بالحتمية البشرية من لابديـّة إنتاج السنن الحسنة، فكان ينتظر من أصحابه إتيان ما لم يأت به ليدربهم على إنتاج السنن الحسنة. ولم يفهم الرسول ولا الصحابة عندما أنتج بعض الصحابة منتجات حسنة بأن الصحابة كانوا بفعلهم هذا يدعون بأنهم أعلم أو أخير من الرسول.
المقالة الثانية: كل منتج ديني بعد الرسول ص بدعة.
مقالة تتجاهل استمرار سنة إنتاج المنتجات الحسنة في الدين. فلا يجوز تعطيل الانتاج الحسن بحجة أن كل محدثة بدعة، فهناك تصنيف آخر وهو إنتاج السنن الحسنة ولابد من استمراره. فهاجس الخوف من إنتاج بدعة يجب ألا يكون على حساب إنتاج السنن الحسنة، وإلا فإنه تورع يعطل حديث آخر وفي هذا خطأ جسيم.
ولقد أنتج الصحابة بعد رحيل النبي عدة منتجات دينية حسنة، منها اختراع السنة الهجرية، ومنها اختراع تنظيم صلاة التراويح في ليالي رمضان وهذه من المنتجات الحسان.
“من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً”، أخرجه مسلم.
المقالة الثالثة: لا يعرف أحد على وجه الدقة يوم مولد عيسى ص. فأهل الإنجيل لا يتفقون عليه!
هذه المقالة يدحضها فعل الرسول ص. فبعد هجرته المباركة إلى المدينة، لاحظ أن اليهود يمارسون احتفالاً دينياً يتعلق بنجاة موسى ص وجماعته في عبورهم البحر هرباً من اضطهاد فرعون مصر. حينها أقبل الرسول ص بسن سنة حسنة حول مشاركة شركاء الأرض (من يهود ونصارى) أفراحهم ومناسباتهم الدينية والثقافية.
الذي يعنينا هنا هو أن الرسول لم يطالب اليهود بإقامة الدليل أن اليوم الذي اختاروه اعتباطاً يصادف اليوم الذي عبر فيه موسى البحر. بمعنى آخر شارك الرسول وأصحابه يوم احتفالات اليهود كما اتفق اليهود أنفسهم على ذلك اليوم دون منازعتهم.
المقالة الرابعة: تحديد يوم معين للتعبير عن حب عيسى وأمه ص عليهما تحجير على واسع بل يجب حبه كل لحظة ودقيقة.
لقد وقت الله الخبير واللطيف بالإنسان عباداته في أوقات خاصة، لأن سجية الإنسان تنتظم في إطار زمني. ولم أسمع أحداً اعترض على فكرة التعبد في إطار زمني معين لأنه خطأ، إلا في إطار أراء شاذة تفتقر إلى سند عقلي ونقلي.
الرسول ص لم يقل لليهود إن حب موسى ورفاقه في قلبي (بالرغم من أنه كذلك)، ولن أخصص يوماً معيناً للاحتفال بنجاته، بل سأحتفل بنجاته كل لحظة وثانية (وهذا ما يفعله) وأن ما تفعلونه بتخصيص يوم لذلك بدعة (هذا مالم يفعله).
والذي فعله الرسول أن قبل ما اتفق عليه القوم من أتباع الديانات الأخرى، وشاركهم تخصيص يوم معين للاحتفال دون أن يكون التخصيص إلغاءً لمحبته بقية أيام السنة. فتخصيص يوم لإحياء ذكرى مناسبة جميلة من مثل نجاة موسى من فرعون أمر جميل جداً.
المقالة الخامسة: فعل جميل يصاحبه أفعال سيئة
ما يصاحب أي احتفال مثل عيدي الفطر والحج من أعمال غير لائقة عند أهل التقى لا يعني إلغاء الفرحة بالعيدين. هذا أمر لم يقل به أحد من الأولين ولا من الآخرين. وعلينا التذكر أن: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ (من خير أو شر) رَهِينَةٌ.
الكريسماس من مكارم الأخلاق:
فكرة الاحتفال بمولد النبي عيسى ص فكرة جميلة، بل هي من مكارم الأخلاق. فميلاد كل المصلحين من أنبياء وغيرهم يوم سعدت به الأرض ومن عليها. وعلى محبي الخير للبشرية التشبث بالإحيائيات وتجنب الأخطاء والإساءات.
فسلامي على عيسى وأمه وعلى جميع الأنبياء والصالحين والصالحات وسلم تسليماً كثيراً، وكل كريسماس والحب والمحبين في خير وسلام وصحة وعافية.
*دكتور في الأنثروبولوجيا من البحرين يعمل في ألمانيا
اقرأ/ي أيضاً: