د. حسام الدين درويش. باحث في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة. جامعة لايبزيغ، ومحاضر في قسم الدراسات الشرقية في كلية الفلسفة. جامعة كولونيا
في ظلّ نظامٍ عالميٍّ غير ديمقراطيٍّ يسود فيه، غالبًا، حق القوة على قوة الحق، ويبدو فيه، أن رئيس الدولة الأقوى في العالم، ترامب، قادرًا على حكم العالم، أكثر من قدرته على حكم أمريكا نفسها، وتبدو فيه روسيا البوتينية قادرةً على منع محاكمة النظام الأسدي على جرائمه الوحشية والمستمرة، بحق السوريين، يجري الحديث عن العدالة الدولية، وعن الصلاحية القضائية العالمية أو الشاملة لمحاكمة المجرمين.
وتعني العدالة الدولية إمكانية أو فعلية محاكمة مرتكبي أشد الجرائم خطورةً التي تمس المجتمع الدولي بأسره، والمتمثلة في جرائم الحرب، وجرائم الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم التعذيب، وجرائم الاختفاء القسري، في محاكم دوليةٍ (المحكمة الجنائية الدولية مثلًا وخصوصًا)، وضرورة هذه المحاكمة. أما الصلاحية القضائية العالمية أو الشاملة فتعني، فيما تعنيه، السماح للدول، أو إلزامها، بالتحقيق في الجرائم الدولية، ومحاكمتها، بغض النظر عن أماكن ارتكاب هذه الجرائم، وعمن قام بارتكابها أو عمن كان ضحيةً لها.
ضمن هذا الإطار، تجري محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب، في مدينة كوبلنز الألمانية. وينبغي التمييز بين هذين الشخصين، بسبب الاختلاف الجذري بين وضعيهما، من حيث التهم الموجهة إليهما، ومن حيث الكثير من العوامل الأخرى. فأنور رسلان كان رئيس قسم التحقيق في الفرع “251”، المسمى ﺑ “فرع الخطيب”، وهو متهمٌ بالمسؤولية الجنائية المباشرة عن جرائم كبيرةٍ وكثيرةٍ، تعرض لها آلافٌ من المعتقلين/ الضحايا. أما إياد الغريب فلم يتجاوز ما فعله اعتقال عددٍ من الأشخاص، خلال شهري خدمته في الفرع، قبل الفرار منه. كما أنه هو الذي تقدم، طوعًا، واعترف بذلك، على الرغم من عدم وجود أي شاهدٍ أو دليلٍ يدينه.
اقرأ/ي أيضاً: في قاعة محكمة كوبلنز: لينا محمد تروي شهادتها المفصلة بمواجهة أنور رسلان
ووفقًا للمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، فمن المتوقع استمرار هذه المحاكمة التي بدأت في 23 نيسان/ أبريل من هذا العام، عدة سنواتٍ. وقد أثار الإعلان عن هذه المحاكمة، وبدؤها، الكثير من ردود الفعل بين السوريين. وعلى الرغم من وجود ترحيبٍ كبيرٍ، مبدئيٌّ، جزئيٍّ أو مطلقٍ، فقد ظهر الامتعاض على ردود فعل بعض السوريين، وشعر كثيرون منهم بما يشبه الغصة، جراء هذه المحاكمة، ولم يتردد كثيرون في إبداء تحفظاتهم عليها. وسأشير، فيما يلي، إلى بعض الأسباب التي جعلت بعض السوريين يظهرون الامتعاض و/أو يشعرون بالغصة، و/أو يبدون التحفظ، في خصوص محاكمة أنور رسلان، تحديدًا.
لكن قبل البدء بذلك، من الضروري التشديد على أنني سأركِّز على مناقشة الأسباب المستندة إلى فكرة أو قيمة العدالة، والمؤمنة بهذه القيمة، أما الاعتراضات التي يبدو أنها لا تؤيد التطبيق العام والشامل للعدالة، وتقتصر على تأييد محاكمة أو معاقبة الأعداء والأباعد، وإعفاء الأصدقاء والأقارب، من المتهمين أو المجرمين، فهي أوهى من أن تؤخذ، بجديةٍ، في المستوى النظري، على الأقل.
يكمن السبب الأول، للغصة، في التطبيق الجزئي والانتقائي للعدالة (الدولية). فهذه العدالة لا تطال إلَّا عددًا ضئيلًا من المتهمين/ المجرمين، لا بل إنها لا تطال إلا “الضعفاء” منهم، مقابل عجزها أمام معظم المتهمين/ المجرمين “الأقوياء”، الذين يستمرون في إجرامهم، لثقتهم بأنهم أقوى من أن تجري مساءلتهم عن الجرائم الكثيرة والكبيرة التي ارتكبوها. وقد سبق وأن علت أصواتٌ مماثلةٌ، في خصوص إصدار المحكمة الجنائية الدولية أمرًا بملاحقة الرئيس السوداني عمر البشير، في الوقت الذي لم تستطع، فيه، فعل أي شيءٍ مماثلٍ في خصوص الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، على سبيل المثال، الذي مُنح لاحقًا جائزة نوبل للسلام، وتسلَّمها بيديه المغمَّستين بدماء ضحايا مجزرة قانا، من الأطفال والمدنيين عمومًا.
وفي السياق الحالي، يخضع أنور رسلان للمحاكمة، بينما تقف العدالة الدولية عاجزةً عن ملاحقة الأغلبية الساحقة من المسؤولين السوريين وغير السوريين، عن ارتكاب جرائم أسوأ، كمًّا وكيفًا، من الجرائم الخطيرة المتَّهم أنور رسلان بارتكابها.
من يشعرون بالغصة، لهذا السبب، لا يعارضون محاكمة رسلان، لا من حيث المبدأ، ولا من حيث النتيجة، لكنهم يرون أن العدالة الانتقائية تجسِّد الظلم، بقدر تجسيدها للعدالة، وربما أكثر بكثيرٍ. وانطلاقًا من ذلك، تفقد قوانين العدالة الدولية عموميتها، وتتحول إلى ما يشبه المراسيم الخاصة المختصة بمحاكمة ثلةٍ قليلةٍ وضعيفةٍ أو مستضعفةٍ من المجرمين.
السبب الثاني للشعور بالغصة هو أن هذه المحاكمة لا تجري في إطار “عدالةٍ انتقاليةٍ”، تسمح للسوريين (الضحايا) عمومًا، بطي صفحة الماضي، وما يتضمنه من جرائم ومعاناةٍ رهيبةٍ.
فالجرائم التي يجري محاكمة أنور رسلان على بعضها، ما زالت مستمرةً، وما زال معظم مرتكبيها على رأس عملهم، وما زال الأشخاص الذين يتحملون المسؤولية الأكبر مستمرين في إجرامهم. فكيف يمكن الشعور بتحقق العدالة، في محاكمةٍ لا زالت الجرائم التي يُحاكم عليها أحد الأشخاص تُرتكب، ومعظم مرتكبيها في أمانٍ ولا يخشون أي ملاحقةٍ أو محاكمةٍ قانونيةٍ على جرائمهم؟ ولا يبدو أنه بإمكان تلك المحاكمة أن تسهم في إيقاف الجرائم التي ما زالت ترتكب في فروع أمن “سورية الأسد”.
إن محكمة أنور رسلان تذكيرٌ إضافيٌّ بالجرائم الكبيرة والكثيرة التي ما زال النظام الأسدي يقترفها في حق السوريين، وعلى هذا الأساس يشعر سوريون كثر بالغصة حيال المحاكمة المذكورة.
ويمكن المضي في هذا المنطق إلى حده الأقصى، من خلال القول إن محاكمة رسلان هي نتيجةٌ لانشقاقه، الفعلي أو المزعوم، عن النظام الأسدي، وتركه لعمله الإجرامي السابق في فروع الامن الأسدية، بقدر كونها نتيجةً لارتكابه الجرائم المنسوبة إليه. فلم يُحاكم، حتى الآن، أي مجرمٍ ما زال على رأس عمله في النظام الأسدي، ومواليًا له. فالغصة، هنا، ناتجةٌ عن أن المحاكمة تجري في حق من توقف عن إجرامه، بدون أن تطال من هو مستمرٌ في هذا الإجرام.
وفي الرد على بعض ما سبق ذكره، يشدد المحامي أنور البني، وكثيرون غيره، على أن المحاكمة تمثل مدخلًا بالغ الأهمية، لفضح كل ما يجري في “سوريا الأسد”، عمومًا، وفي فروع الأمن الأسدية خصوصًا، من جرائم، خطيرةٍ، وكبيرةٍ، وممنهجةٍ، بحق السوريين، وتقدِّم منبرًا علنيًّا استثنائي القيمة، لإدانة النظام، إدانةً قانونيةً وأخلاقيةً رسميةً. كما يشدِّد المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان على أن “مجرد فتح هذه المحاكمة يبعث في نفوس الكثيرين، داخل سوريا، وخارجها، الأمل في تحقيق العدالة، لجميع من وقع ضحية لنظام التعذيب الخاص بالحكومة السورية”.
وبدون التقليل من المعقولية الكبيرة لهذين الرأيين المهمين، يرى كثيرون أن الأمل الذي يتحدث عنه المركز الأوروبي مشوبٌ بيأسٍ كبيرٍ. ويذهب بعضهم إلى حد الخشية من أن تقلل هذه المحاكمة من إمكانية تحقيق العدالة المذكورة، بسبب إسهامها في منع المجرمين القائمين على رأس عملهم، في الفروع الأمنية الأسدية خصوصًا، من التفكير ترك هذا النظام و”الانشقاق” عنه مستقبلًا. ويزيد ذلك من تماسك النظام، وشعور أو اعتقاد المرتبطين به بوحدة المصير، وبانعدام وجود أي خطٍ للرجعة. ويمكن لذلك أن يسهم، أيضًا، في زيادة وحشية القمع الأمني وجرائمه، بوصفه الوسيلة الوحيدة لضمان بقاء النظام الأسدي، وحماية عناصر هذا النظام من الخضوع لمحاكماتٍ، على غرار “محكمة كوبلنز”.
اقرأ/ي أيضاً: محكمة كوبلنز تصدر حكمها الأول: السجن لعنصر المخابرات السورية إياد الغريب
لقد قيل الكثير، للتشديد على أهمية هذه المحاكمة، وقيمتها الكبيرة، الفعلية والرمزية، ونتائجها المتوقعة والمرجوة. ولا أهدف بمقالي هذا إلى الاختلاف مع التشديد المذكور، وإنما أروم إظهار المعقولية الجزئية والنسبية لما أسميته بالشعور بالغصة لدى سوريين كثر. في المقابل، لا ينبغي لتلك الغصة، ولمسوغاتها، ولما يرافقها من امتعاضٍ وتحفظاتٍ مشروعةٍ، أن يقلل من أهمية الخطوة التاريخية، والقيمة الرمزية والفعلية، لتلك المحاكمة. كما لا ينبغي أن ننسى، أو أن نتناسى، أن الجهود القيمة الكبيرة التي أفضت إلى ملاحقة أنور رسلان ومحاكمته، قد أسهمت في رفع قضايا أخرى على كثير من المسؤولين الكبار في النظام الأسدي، ومن ضمن هؤلاء بشار وماهر الأسد، ومسؤولي “الفرع 235” المسمى ﺑ “فرع فلسطين” ومسؤولي “الفرع 215″، المسمى ﺑ “فرع كفر سوسة”، ومسؤولي “الفرع 227” المسمى ﺑ “فرع المزة” المرتبط بصور قيصر، ومسؤولي المخابرات الجوية، وسجن صيدنايا، ومشفى تشرين العسكري، ومنهم علي مملوك، وعبد الفتاح قدسية، ورفيق شحادة، وجميل الحسن، ومحمد خلوف … إلخ.
ولا ينبغي للغصة المذكورة أن تفضي إلى، أو تنبثق عن، تخييرٍ علينا أن نختار فيه -بالضرورة- بين طرفين نقيضين: إما العدالة الكاملة، وإما انعدام العدالة، انعدامًا كليًّا.
فمن حيث المبدأ، وفي الواقع، تبقى العدالة أشبه بالمثل الأعلى الذي ينبغي لنا السعي إلى الاقتراب منه، قدر المستطاع، على الرغم من معرفتنا باستحالة بلوغه، بلوغًا كاملًا. وتمثل محاكمة كوبلنز خطوةً في الاتجاه الصحيح والعادل؛ والآمال، المقترنة بالأفعال، قائمةٌ في أن تتبعها خطواتٍ أكبر أخرى، في الاتجاه ذاته. ويبقى ضروريًّا دعم الجهود القانونية الهائلة والعظيمة التي يقوم بها المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، ورئيسه المحامي أنور البني، والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ورئيسه المحامي والصحفي مازن درويش، وعددٌ من الناشطين والضحايا الناجين من التعذيب، بدعمٍ كريمٍ من المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، وجهاتٍ أخرى.
فبدون مثل هذه الجهود لم يكن بالإمكان تحقيق هذه الخطوة الهامة، وبفضل هذه الجهود، وتضافر جهودٍ أخرى معها، هناك أملٌ حقيقيٌّ ومسوّغٌ في الذهاب إلى مدىً أبعد بكثير مما تحقق حتى الآن.