نعمت أتاسي – كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
لم تكن تدري صديقتي عندما سمحت لنفسها بالدخول إلى عالم التساؤلات العبثية في أي لحظة كانت تعيش، هل هي لحظة إشراق وجودي طغى عليها عطر جميل، أم أنها لحظة خذلان تاريخية فرضت نفسها عليها بالرغم من جمال صباحها الباريسي المبكر. ما
يبدو أنها تؤمن بأن أي لاجئ يعيش لحظات من العذاب والمعاناة، تحزً في نفسه، تجعله يشعر أحياناً بالشفقة عليها, وأنه الضحية الكبرى في هذا الزمن الغادر، ولكن هذه اللحظات تمده بنوع من المتعة والنشوة، لأنه يشعر بعدها أنه تغلب على شعور الشفقة الكريه ليخرج من عالم الضعف والحسرة إلى عالم قوي جميل. حتى أنه يصل إلى مرحلة شكر لهذا العذاب الذي أعطاه انطلاقة إلى عالم الحرية والاستقلالية.
إذاً فقد دخلت صديقتي في عالم تساؤلاتها العبثية أو حتى لنقل الغبية.. ماذا لو..؟!
بتصميم وعزم خطت صديقتي خطوات واسعة نحو الوراء لتعود إلى البدايات، والظاهر أنها أوغلت في الرجوع لأنها عندما أرادت أن تبدأ فعلاً منذ البداية، منذ طفولتها، لتشرح لنفسها أشياء كثيرة تعيشها اليوم، شعرت بالخوف وفضًلت التغاضي الكلي عن تلك الفترة خشية من تأزم الأمور أكثر، وفضلت أن تبدأ من مرحلة خلقها الثانية، نقطة الصفر التي بدأتها منذ سنوات.
ماذا لو بقيت في العالم الذي كانت تعيشه بكل قناعة وسعادة ولم تقبل الدخول في عالم التحولات ؟ ماذا لو أصرًت على العيش في حيًز الروتين ولم تدخل إلى فضاءات الحرية والشجاعة ؟
عندما تتكلم صديقتي عن الشجاعة والحرية، وبالنسبة لطبيعتها المسالمة والساكنة حتى لدرجة التخاذل، فهي كانت تعتقد أن ما عاشته في لحظات خلقها الجديد هو فعلاً قمة الحرية والانطلاق لا بل حتى والشجاعة- يا للسذاجة!
في حياتها السابقة، كانت تحقق نجاحات وانتصارات مهنية واضحة المعالم أعطتها دفعاً كبيراً من القوة والثقة بالنفس. وكانت تشعر بالاكتفاء الذاتي في مدينتها الوادعة ونشاطاتها البسيطة، هذه المدينة التي كانت تشبهها إلى حدِ كبير ولذلك كانت تجد نفسها فيها.
ماذا لو بقيت هناك مع نجاحاتها الصغيرة في مدينتها ولم تتحمس للدخول في عالم الكبار، العالم السحري للشجاعة الحقيقية والتغيرات المفصلية؟ ماذا لو رفضت أن يمسها السحر(كما قالت الروائية روزا ياسين حسن)؟ ماذا كان سيحدث؟ هل كان لديها حقاً حرية الاختيار؟ أم أنها وجدت نفسها فجأة أمام حتمية التغيير؟ هل كانت ستبقى بمنأى عن هذا التغيير؟ تعيش في مدينة مسحورة مع أناس مسحورين وتأبى أن يطولها السحر؟ وهنا تتذكر صديقتي رواية ساراماغو ” العمى” وشخصيته الرئيسية المبصرة الوحيدة في مدينة العميان، لو كانت قد بقيت هناك كانت ستكون المبصرة الوحيدة في عالم العميان أو بالأحرى العمياء الوحيدة في عالم المبصرين… هل كان هذا ممكناً؟
لم تكن صديقتي تدري أنه وبتلك اللحظة التي قررت فيها البدء بأول خطوة في طريق التحولات أنها ستعرض نفسها لهذا القدر الكبير من العشوائية.
تعتقد صديقتي اليوم أن باريس أيضاً باتت مدينة مسحورة مثلها. كل شيء في باريس تغير مع تغير ظروف صديقتي وحياتها وكأنه نوع من التواطؤ الخفي معها. لونها، رائحتها، جغرافيتها ووسائل مواصلاتها وحتى ألوان أشجارها وأرصفتها تغيرت مع تغير الأشخاص والظروف، تبدو باريس اليوم لصديقتي بلون جديد وخصوصاً رائحة جديدة، فهذا الرصيف الذي طالما مشت عليه قد تغير تماماً وكأن مكنسة الزمن السحرية قد غيرت معالمه، وبرج إيفل يبدو لها بحجم جديد وشكل جديد، حتى نهر السين ارتدى حلة جديدة وبات لا يشبه نفسه، رائحة القهوة والكرواسان التي كانت تنبعث من المقاهي الباريسية الصغيرة قد تغيرت حتى أنه لم يعد هناك لهم رائحة.
هل هو فعل الاعتياد الذي يمحو خاصية الأشياء وحميميتها؟ أم أن المدينة تتغير فعلاً كشكلٍ من أشكال الوفاء والإخلاص لزمنٍ ولًى؟ أم هي صديقتي التي فقدت حاسة الشم لديها مع مجمل الأشياء الصغيرة والكبيرة التي فقدتها؟ وكيف نفسر إذاً تغير الهواء واللون والرائحة في باريس؟ هل هي التغيرات المناخية الحتمية؟ أم هي صديقتي التي أتقنت فن اللعب والاختباء وراء الزمان والمكان؟
على صديقتي الآن التأقلم مع الوجه الآخر الذي عليها أن تكونه. ستتابع الرحيل عبر الزمن ولو عجزت عن تركيب ذاكرتها لتتوافق مع حاضرها، ستتركها الآن كمرحلة مؤقتة فأمامها هذه اللحظة خيارٌ واحد: إما أن تقبل التحولات أو أن ترفضها. وبما أنها اختارت في نهاية حياتها السابقة الدخول في هذا العالم -هل فعلا هي من اختارت؟- فليس أمامها سوى المضي في هذا الطريق العجيب ( ستكون أليس في بلاد العجائب ).وستحاول جاهدة التمتع بكل خطوة وبكل لحظة في هذا العالم.
ها هي صديقتي قد قبلت التحدي وسترسم خطوط قصتها الشخصية وستؤجل حساباتها مع الحياة بانتظار اليقين أو اللا يقين.
يوميات مهاجرة أخرى:
زاوية يوميات مهاجرة 7 وماذا بعد؟؟
زاوية يوميات مهاجرة 6: إدمان..
زاوية يوميات مهاجرة 5: سأروي حكايتي