محمد عبدالوهاب الحسيني*
صدرت هذه الرواية في لبنان في العام 2017، وهي مؤلفة من عشرة فصول وعناوين فرعية تجعلها أشبه بقصص قصيرة، يجيد فيها الروائي الوصف الذي هو أساس السرد، وترتبط القصص كلها بخيط درامي منطقي يجعل الأحداث مترابطة تماماً. السرد الروائي هنا يشبه أكثر ما يشبه عدسة زوم مقرّبة تقوم بتصوير المشاهد، لقطة لقطة، كأن القارئ أمام فيلم سينمائي تتوالى أحداثه المشوّقة.
يبدو الكاتب العراقي “علي بدر” في هذه الرواية ملمّاً بجغرافيا شخوصه وأحداث روايته التي تجري في بلجيكا، شارعاً شارعاً وخطوة خطوة، فهي رواية تتناول سيرة اللاجئين عاثري الحظ في أوروبا، ويقوم السرد على الوصف الأشبه بالمنمنمات الدقيقة والتفصيلية، حيث نقرأ في ص35: (كانت الغيوم تغطي سماء بروكسل، فجعلت الجو كئيباً، مملّاً معتماً قليلاً، وكانت الشوارع غارقةً في ضجيج السيارات العائدة إلى الكراجات في منازل وعمارات الضاحية القريبة من مركز بروكسل). ويمكن القول إننا لا نجد في هذه الرواية أي أجواء من البلاغة الشاعرية في السرد، وإنما يبدو الروائي وفيّاً للنثر بوصفه اللغة الأولى للروايات.
ببساطة هي رواية واقعية بحتة، لا حيّز فيها للمتخيّل الذي عادة يضفي جمالية على الحبكة الدرامية، لكن الكاتب يستخدم التشبيهات أحياناً دون التوغل في البلاغة. مثل قوله في ص51: (سيغادركم هذا الطفل مثل نحلةٍ تغادر الحديقة.. هذا النبيّ الذي أسودّ وجهه مثل فاكهة ناضجة).
يرصد الروائي بعض العوالم النفسية لبطله المدعو “جلال”، وهو لاجئ عراقي يظهر كشاهد على حال اللاجئين في المكان والزمان الأوروبي، ومن خلال حكايته الخاصة يسرد حكاية أوجاع اللاجئين وأحوالهم، فيعبّر عن حالة الاغتراب لديه ولديهم، نقرأ في ص56: (ذلك أن مشاعر الارتباك بدتْ عليه واضحة، هذه المشاعر تهاجمه كلما وجد نفسه في مكان جميل ونظيف ومضاء وفيه رجال ونساء أنيقون ومبتهجون ومخدومون بالنبيذ والطعام.. يشعر على الدوام في مثل هذه الحالات أنه في المكان غير المناسب وأن جميع الناس تنظر نحوه نظرات مريبة وتستهجن وجوده.. المجتمعات الشمولية سياسياً أو ثقافياً تهدم الثقة بالنفس، تهدم ثقة الأفراد بأنفسهم وتجعلهم يشعرون بأنهم صراصير أو جرذان). حالة شبيهة ببطل رواية كافكا “المسخ” الذي كان ينظر إلى نفسه كحشرة غريبة!
من جهة أخرى، يمكننا القول بأن الرواية ربما كانت أشبه بسيرة ذاتية للروائي نفسه، فهي حكي استعادي نثري، يتسم بالتماسك والتسلسل في سرد الأحداث، علماً أن رواية السيرة الذاتية لا تشترط الاعتماد على الضمير المتكلم حيث يمكن للروائي أن يتقنّع بضمائر أخرى. أما الوصف الخارجي الدقيق فيجسّد الشخصية تجسيداً واضحاً لدى المتلقي، مثلما ورد في ص93: (كانت لامعة وحيوية ومدهشة، لها وجه ملاك وقح بشعر أجعد قصير وعينين واسعتين وكان جسدها صغيراً ونحيلاً وصبيانياً).
على محورٍ آخر يسرد الراوي تاريخ بلجيكا الاستعماري، وذلك من خلال ذاكرة صديق “جلال” المسمّى: “الأستاذ”، وهو رجل عراقي يعيش في بلجيكا بأوراق مزوّرة، بعد أن رفضتْ السلطات هناك لجوءه، وبقي في بروكسل بأوراق مزيّفة، ويكاد هذا النص الروائي من خلال هذه الشخصية، أن يحتفي بالوجع الغريب للاجئين في أوروبا عموماً.
يحكي الراوي كذلك حكاية “جلال” وصديقه حين حاولا القيام بسرقة مليون دولار من وزير عربي بات في يوم وليلة لاجئاً في بلجيكا، وقد هرب إليها بعد ثورات الربيع العربي. حيث تبدو هذه السرقة والتخطيط لها بمثابة تقنية سردية بوليسية تخلق التشويق اللازم للحبكة الدرامية لجذب اهتمام القارئ!
من ناحية الشكل فالرواية بواقعيتها البحتة ليست لها أية علاقة ببعض أنواع الرواية الحديثة، تلك التي تبتهج وتتباهى بتوظيف الرموز والطقوس الأسطورية وإقحام العوالم اللامألوفة والخيال. لغة الرواية تبقى وفية للواقعية المحضة، فنرى الكاتب يستخدم لغة الأجانب في أوروبا كما نسمعها في الشارع، فمثلاً يورد مفرادت (باركات مريحة للسيارات، بوتيكات متوسطة الأحجام، حياة اللوكس..الخ).
أخيراً يمكننا أن نقول إن الرواية لاتتوانى عن رفض ثورات الربيع العربي، واصفةً إياها بالثورات الرجعية، وبأنها إنتفاضات لا تنتمي إلى مرجعيات عصر التنوير. كما أن الرواية ومن خلال الحوار بين البطل والوزير العربي المخلوع تقف على حقيقة فساد الأنظمة العربية ومعارضاتها معاً، تلك التي انتصرتْ على الأنظمة ولكنها تقنّعتْ بقناع الإسلام السياسي!!
محمد عبدالوهاب الحسيني. كاتب وصحفي سوري مقيم في ألمانيا
خاص أبواب
اقرأ أيضاً: