بمناسبة حلول شهر رمضان أتقدم للسادة القراء بأحر التهاني والأمنيات، راجيًا من الله أن يكون شهر خير وبركة على المسلمين في كل أنحاء العالم، ولا سيما في سوريا حيث ما زال أهلنا للسنة السادسة على التوالي يعانون كل أنواع المشقة، من قتل واعتقال وخطف وتدمير، إضافة لنقص الحاجات الأساسية وغلائها إن توفرت.
شهر رمضان شهر مبارك لأن القرآن أنزل فيه، وهو موسم للمغفرة والدعاء، ويهمني اليوم توضيح بعض المفاهيم الملتبسة حول الصوم بكونه ركن من أركان الإيمان لا الإسلام، إذ خلط الفقه الموروث بينهما، من خلال حديث لا أساس له “بني الإسلام على خمس” يناقض ما جاء في التنزيل الحكيم، فأركان الإسلام هي الإيمان بالله “شهادة ألا إله إلا الله” واليوم الآخر مع اقتران هذا الإيمان بالعمل الصالح {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33)، حيث ابتدأ الإسلام مع نوح وتراكمت فيه القيم تدريجيًا لتختتم مع محمد، إذ وصلت الإنسانية لمرحلة من النضوج تستطيع فيها التشريع لذاتها، أما أركان الإيمان بالرسالة المحمدية فهي “شهادة أن محمد رسول الله”، إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، حج البيت، أي اتباع محمد في أداء الشعائر، والشعائر من “شعار” هي ما يميز كل ملة عن غيرها، والأمم السابقة عرفت الصوم كشعيرة، فالصوم في زمن مريم كان صومًا عن الكلام، والصوم على ملة محمد (ص) هو صيام عن الطعام والشراب والجماع من الفجر حتى الليل.
وجراء الخلط بين أركان الإسلام وأركان الإيمان، تقدمت الشعائر على الوصايا، واعتبرت هي العبادة المقصودة في قولنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة 5) مع أن العبادة تكون في اتباع الصراط المستقيم {إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (آل عمران 51)، وفيه لا مكان للاستطاعة، ولا لأنصاف الحلول، بل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران 102)، فلا يمكن أن نغش قليلاً، أو نقتل قليلاً، بينما في أركان الإيمان {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن 16) فالإسلام يوافق الفطرة، بينما تكاليف الإيمان ضد الفطرة، فالفطرة أن نأكل، لا أن نصوم، والفطرة أن نتملك لا أن نهب أموالنا للغير، ولهذا وعدنا الله جنات تجري من تحتها الأنهار أجرًا ومثابة.
فإذا قرأنا قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة 183- 185) نجد أنه قد حدد موضوع التكليف في الآية الأولى (الآية المحكمة) ثم فصل في الآية الثانية حالتين، المرض أو السفر فيمكن تأجيل الصيام لأيام أخر، أو “يطيقونه” أي يتحملون الصيام لكنهم لا يريدون لسبب ما، فعليهم دفع فدية، لكن الصيام “خير لكم”، فإذا أردتم الصيام فلكم في الآية الثالثة تفصيل ذلك.
لكن ما حدث أن الفقه الموروث فسر الآيات على هواه، فقال أن الآية الثالثة نسخت الثانية، بمعنى أن الله وضع في الكتاب آيات لا داع لها، أما “يطيقونه” في كتب التفاسير، فتعني “لا يطيقونه”، ولا أعلم كيف سنفهم بالتالي {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (البقرة 286) ولا أعلم كيف فسر السادة الفقهاء {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} إذا لم يترك أي فسحة لأن يفطر المرء غير المرض أو السفر؟ علمًا أن الفدية تختلف عن الكفارة، حيث لا ذنب لتكفر عنه إن أنت أفطرت، بينما الكفارة تدفع لذنب قمت به {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المائدة 89).
وبالتالي نفهم من الآيات أن الله تعالى ترك لنا خيارًا بين الصيام وعدمه، مع ترجيحه الخير في الصيام، فالعامل في المنجم أو في الحر لا يمكنه الامتناع عن الماء، ومن يعش في شمال أوروبا قد لا يمكنه صيام تسعة عشر ساعة أو أكثر في بعض الأحيان، والله تعالى أعطاه الحل بدفع الفدية، أما الفقير فيستحق الفدية والله أعلم بحاله إن لم يستطع إطعام أحد من طعامه، وتخيلوا لو أن نسبة 3% مثلاً من المسلمين الصائمين غصبًا دفعوا ما يعادل إطعام شخص عن كل يوم أفطروا به، ألا يكفي ذلك لإطعام كل جوعى العالم؟
أما اللف والدوران والقول أن من يصوم في أوروبا يمكنه الإفطار على توقيت مكة فلا يمكن لأن الآية واضحة {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ — وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ –}(البقرة 187).
وأنوّه هنا أنه لا يوجد في التنزيل الحكيم ما يمنع الحائض والنفساء من الصيام، إلا إذا كانت حالتها تندرج مع المرض، فالصيام لا يشترط الطهارة بينما تشترط إقامة الصلاة ذلك.
وأنوه أيضًا إلى أن شهر رمضان هو التاسع بين الأشهر القمرية، وكان العرب يلجَؤون إلى النسيء لتساير الأشهر القمرية الأشهر الشمسية، بحيث يضاف شهر كل ثلاث سنوات، وأرى صحة في ذلك، فيأتي رمضان كل عام في الشهر التاسع الشمسي “سبتمبر/أيلول” حيث يساوي الليل النهار في نصفي الكرة الأرضية، أما النسيء الذي قال عنه الله تعالى {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(التوبة 37) فهو التحايل في الأشهر الحرم وفق التجارة وحاجتهم للقتال.
لا يفهم من مقالي هذا أني أدعو لعدم الصيام، فالله تعالى قال {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، لكنه جل وعلا لا يريد عذابنا {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}(البقرة 286)، ولا يريد أن نكره أبناءنا على الصيام كعادة فقط، ولا أن نحمل الآخرين فضلاً أو منة كوننا صائمين، ولا أن نعطل العمل بحجة ذلك، ومن يريد الإفطار عليه دفع فدية، وأهل بلده بحاجة لما يسد رمقهم، والمساكين بعشرات الآلاف، فلا تبخلوا عليهم.