ريما القاق*
يختلف تفاعل الإنسان مع الهجرة وآليات التأقلم مع المحيط الجديد حسب البلد المضيف، الحالة النفسية والاجتماعية والمادية، الإمكانيات الفكرية، الميزات الشخصية وغيرها.
لكن تبقى منصات التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) قاسماً مشتركاً بين معظم الحالات اليوم، فقد لوحظ استخدام ثلاثة وسائط بشكل كبير بين السوريين بنسب متفاوتة: فيسبوك، واتس آب، سكايب. بينما تستخدم فئات أقل تويتر وسناب شات وغيرها من الوسائط الأقل انتشاراً في عالمنا العربي. على مدار عددين، يحاول هذا المقال البحث في أسباب استخدام السوريين للمنصات الاجتماعية بشكل كبير وأثرها المحتمل على الصحة النفسية.
في الجزء الأول من هذا المقال، قمنا باستعراضٍ مختصر لاستخدام السوريين المكثف لوسائل التواصل الاجتماعية كحالة لم شمل افتراضي، منصة للتعبير والتفاعل ومراكز استشارة افتراضية. في هذا العدد، نستعرض أثر الغوص المكثف في العالم الافتراضي المحتمل على الصحة النفسية.
تأثير العالم الافتراضي على الصحة النفسية
في دراسة قامت بها جامعة بيتسبرغ وتم نشرها في المجلة الأمريكية للطب الوقائي American Journal of Preventive Medicine عام ٢٠١٧، وجد أن استخدام منصات التواصل الاجتماعي بكثرة قد يؤدي إلى العزلة الاجتماعية. فقد وجدت الدراسة أن الأشخاص الذين يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي أكثر من ٥٨ مرة أسبوعياً معرضين للشعور بالوحدة أكثر بثلاث مرات مقارنةً مع الذين يستخدمونها أقل من ٩ مرات أسبوعياً.
وليس من الواضح للباحثين أيهما يأتي أولاً، العزلة الاجتماعية أم استخدام منصات التواصل الاجتماعي بكثرة؛ بمعنى هل يسبب الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي العزلة الاجتماعية، أم هل تسبب العزلة الاجتماعية توجه الناس إلى منصات التواصل الاجتماعي؟
يبدو لي في الحالة السورية أن حدوث الثورة السورية وما تلاها من حالة عدم استقرار سياسي أولاً، وحالة الاغتراب وما تلاها من بعدٍ قسريٍّ عن الوطن والأهل ثانياً شكلا دافعين أساسين للجوء الكثيف إلى العالم الافتراضي، وبدوره أدى اعتياد هذا الاستخدام الكثيف إلى تفاقم حالة العزلة الاجتماعية في المغترب، فأصبح الأمر كحلقة مغلقة كلاهما يؤدي لتفاقم الآخر.
يمكن تعريف العزلة الاجتماعية بعدم الشعور بالانتماء، وعدم المشاركة الحقيقية مع الآخرين وعدم وجود العلاقات المرضية في الحياة، وقد تم ربط العزلة الاجتماعية بازدياد مخاطر الإصابة بالأمراض والوفاة. ولا يعدّ هذا الأمر مفاجئاً للكثيرين، لاسيما بعد صدور عدة دراسات تربط بين زيادة استخدام منصات التواصل الاجتماعي والاكتئاب، الغيرة، عدم الرضا عن الذات والشعور بالنقص.
وبالتأكيد لا يمكن أن يحل الواقع الافتراضي بدل العالم الحقيقي بأي شكل من الأشكال، ولا يمكن الهروب إليه دائماً. في نفس الوقت الذي يمكن أن يقلل فيه الاستخدام المعتدل للتواصل الافتراضي من مشاعر الوحشة والغربة، يجب الوعي دائماً بمدى تأثيره على التواصل مع العالم الحقيقي، ومحاولة استخدامه كوسيلة وليس كغاية.
مما لا شك فيه أن اللجوء إلى الواقع الافتراضي أسهل من الاندماج في العالم الحقيقي. فلا يمكن الإنكار أن التحدث عبر الشاشة مع الأخ أو الصديقة باللغة العربية أسهل من إجراء حديث مع موظف أو زميلة باللغة الألمانية. كما أن السؤال أو الاستفسار عن طريق ”بوست“ باللغة العربية أخف لبكة من الذهاب إلى مركز استشاري.
لكن ما قد يغيب عن وعينا، أن التحدث مع جار أو زميل أو أي شخص من محيطنا يعزز الثقة بالنفس ويساعد على تعلم اللغة. كما أن الذهاب إلى مركز الاستشارة أو المكتب المختص يساعد على التعرف على النظام والجمعيات الألمانية الاجتماعية، التي تقدم أماكن مجانية للتعرف على أناس جدد وتقدم إمكانيات لممارسة الهوايات والاهتمامات، وفرصاً للتقدم في مجالي الدراسة أو العمل. في حين يغرق الشخص المنغمس في العالم الافتراضي في بئر من العزلة الاجتماعية يصعب الخروج منها يوماً بعد يوم.
لابد من ملاحظة أن ألمانيا تقدم فرصاً للمشاركة بكافة أنواعها: الفكرية، السياسية، الاجتماعية والفنية، وذلك بحد أدنى من اللغة، ويمكن للمرء مشاركة ما لديه مع هذه المجموعات التي قد تتيح له تبادل الخبرات والمهارات معها. كما أن هذا التفاعل الحقيقي يساعد اللاجئين على تعلم كيفية تنظيم أنفسهم والمطالبة بحقوقهم والاعتراض على أي أمر ضمن إطار قانوني. وبناءً على هذا، قد يفوّت المرء على نفسه فرصاً ومصادر هامة بالفعل في حال عدم تفاعله مع محيطه.
إنها خطوةٌ أولى للخارج، تشبه المرة الأولى لقيادة دراجة هوائية؛ عملية صعبة ومجهدة، قد تبدو خطيرة ويترتب عليها بعض الضغط النفسي، لكنها كذلك فقط في البداية، ثم لا تلبث أن تمنح الإنسان المتعة والحرية والثقة بالنفس والفرصة لاكتشاف النفس واكتشاف أفق جديدة في الحياة.
ريما القاق. ماجستير في إدارة النزاعات بين الثقافات المختلفة
اقرأ أيضاً للكاتبة:
العالم الافتراضي … لجوء من نوع آخر “الجزء الأول”
أمراض المهاجرين، متلازمة أوليسيس .. ضغوط الاغتراب وغياب الرخاء الاجتماعي – الجزء الأول
أمراض المهاجرين: متلازمة أوليسيس، ضغوط الاغتراب وغياب الرخاء الاجتماعي – الجزء الثاني
عن الصحة النفسية للاجئين في برلين… استراحة المحارب