ريما القاق*
عندما شاهدت حلقة مسلسل مرايا ”إنترنت“ عام ٢٠٠٣، توقعت أن نعيش هذه الحالة لكن ليس اليوم وإنما في المستقبل البعيد. حيث تنبأت الحلقة باستخدام الإنترنت كوسيلة تواصل بين أفراد العائلة في البيت الواحد، وكوسيلة للتعليم وفي النهاية وسيلة للعزاء. يبدو الحال المتخيل مشابهاً لما يعايشه السوريون اليوم من اعتماد كبير على الإنترنت ومنصاته كأسلوب حياة يومي ولأكثر من غرض.
يختلف التفاعل مع الهجرة وآليات التأقلم مع المحيط الجديد حسب البلد المضيف، الحالة النفسية والاجتماعية والمادية، الإمكانيات الفكرية، الميزات الشخصية وغيرها. لكن تبقى منصات التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) قاسماً مشتركاً بين معظم الحالات اليوم، فقد لوحظ استخدام ثلاثة وسائط بشكل كبير بين السوريين بنسب متفاوتة: فيسبوك، واتس آب، سكايب.
بينما تستخدم فئات أقل كلاً من تويتر وسناب شات وغيرها من الوسائط الأقل انتشاراً في عالمنا العربي. على مدار عددين، يحاول هذا المقال البحث في أسباب استخدام السوريين منصات التواصل الاجتماعي بشكل كبير وأثرها المحتمل على الصحة النفسية.
لم شمل افتراضي
يلجأ كثيرٌ من السوريين الذين ينتظرون لم الشمل إلى السكايب كوسيلة اتصال يومية، بالصوت والصورة مع عائلاتهم في سوريا أو الدول المجاورة. بينما تميل فئة الشابات والشباب لاستخدام الواتس آب كطريقة تواصل مع العائلات وبتواتر أقل.
يخفف هذا التواصل من الشعور بالوحشة والغربة، كما يبقي الأفراد على دراية بتفاصيل حياة بعضهم البعض اليومية. كما درجت مجموعات الواتس آب منها مجموعات عائلة، صداقة، عمل، أنشطة.. يتبادلون خلالها الصور، الأخبار والنصائح، فيما يشكل حالة تكافلٍ اجتماعيٍ بديلة عن المجتمع المتماسك المعتاد في سوريا.
ويبقى الفيسبوك بوك المساحة الأكثر شيوعاً لتعويض ما فقد في الوطن من تواصل اجتماعي، فأضحى فضاءً لتبادل التهاني واستقبال العزاء والتمنيات بالشفاء.
منصة للتعبير والتفاعل
إلى جانب هذه الحاجة للمّ الشمل الافتراضي، يستخدم سوريون كثر الفيسبوك للتعبير عن آرائهم إزاء ما يحدث في سوريا. ففي ظل غيابهم الجسدي عن البلد، تبدو مشاركتهم على منصات التواصل الاجتماعي بمثابة إثبات لوجودهم ولو بشكل افتراضي. فعند وقوع أي حدث مهما بلغ حجمه من تحولٍ سياسي مهم إلى حدث عسكري أو وفاة أحد الفنانين أو إصدار عمل فني هابط، تتحول صفحات الفيسبوك إلى ساحات للحوار والجدال والصدام أحياناً كثيرة.
ليس مستغرباً أن تصبح المشاركة والتعبير مكثفةً بعد ما عايشه السوريون. فحسب نظرية التصور الاجتماعي، عند حدوث اضطرابات كبرى يميل الناس إلى التعبير بشكل مكثف، كسلوك يعبر عن حاجتهم لاستيعاب ما يحدث من تغييرات كبرى في حياتهم ومحيطهم وهويتهم، كما يربطون ما يحدث بوعيهم وذاكرتهم الجمعية في محاولةٍ لتحويل ”غير المألوف“ إلى ”مألوف”.
يقول عالم النفس سيرج موسكوفيتشي إنه ”يتم الكشف عن طابع التصور الاجتماعي في أوقات الأزمات والاضطرابات، عندما تتعرض مجموعة من الناس أو صورهم للتغيير. فيصبح الناس أكثر استعداداً للحديث، وتصبح الصور والتعابير أكثر حيوية. تثار الذكريات الجمعية ويصبح السلوك أكثر عفوية. فالدافع لدى الأفراد هو رغبتهم في فهم عالم غير مألوف ومشوش على نحو متزايد ”.
أبدى الكثيرون تفاعلاً مع المواضيع التي تعنى بالذكريات الجمعية في سوريا؛ رحلة اللجوء بكافة مراحلها، الاندماج، المشهد السياسي الأوروبي وغيرها عن طريق: الكتابة، الرسم، الفيديوهات المباشرة والموسيقى. لكن الحامل الرئيسي لهذه المشاركات كان افتراضياً أغلب الوقت. قد يكون ضيق مساحة التعبير في البلاد الجديدة بسبب اختلاف اللغة والثقافة وتعقيدات التفاعل مع المجتمع الجديد، سبباً آخر لانجذاب الكثيرين للتعبير الافتراضي بدلاً من التعبير الحقيقي في الشارع.
مراكز استشارة افتراضية
أُنشئت على الفيسبوك مجموعاتٌ موجهة من وإلى المغترب، منها ما أصبح بمثابة مراجع لكافة المعلومات والاستشارات. تتدرج وتتنوع فيها المواضيع بشكل لافت: عمل، دراسة، تسجيل مواليد، أمور طبية، حقوقية، طهور، زواج، طلاق، إيجاد بيت، دراجات هوائية، وغيرها من المواضيع الاجتماعية، السياسية، القانونية والطبية، المتعلقة بظروف وقوانين المعيشة في ألمانيا.
بمراقبة هذه المجموعات، يُلاحظُ مشاركة الرجال أكثر من النساء، كما يُلاحظ أنها باللغة العربية مع غياب شبه كامل لمشاركين أو مشاركات من البلد المضيف. ورغم أهمية تبادل المعلومات والتجارب والخبرات العملية، لكن لا يحبَّذ غياب المرجعية الموثوقة خصوصاً في القضايا المهمة قانونياً وطبياً، فلا يجب بأي حال اعتماد هذه المجموعات كمصدر وحيد للمعلومات، سيما أن بعض هذه المجموعات قد تكون مكاناً للإشاعات أو المعلومات المغلوطة.
تقدم ألمانيا اليوم خدمات استشارية مجانية للاجئين في كافة المجالات، وبوثوقية عالية ومعظمها باللغة الأم، عداك عن متابعة الجوب سنتر وإشرافه بما يخص موضوع الدراسة والتوظيف. ورغم ذلك، تلقى المجموعات الافتراضية رواجاً أكبر من المراكز الفعلية بين أوساط السوريين.
تعتبر اللغة الألمانية والبيروقراطية حاجزان رئيسيان، كما يلعب غياب الثقة بين اللاجئ والمؤسسة الألمانية دوراً هاماً في عزوف الكثير من السوريين عن الذهاب إليها. وأكد البعض من جهةٍ أخرى أن كثرة المواعيد والالتزامات مع مدرسة اللغة ومركز العمل والأطباء ومدارس الاطفال تجعل وقتهم غير متاحٍ لمثل هذه الأمور.
في العدد القادم، يبحث الجزء الثاني أثر استخدام منصات التواصل الاجتماعي بشكل مكثف على الصحة النفسية.
*ريما القاق. ماجستير في إدارة النزاعات بين الثقافات المختلفة