كفاح علي ديب
في عام 2008 كنت طالبة في كلية الفنون الجميلة في دمشق، وكنت أطمح إلى إنهاء أربع سنوات دراسة، ثم إلى مغادرة سوريا إلى إحدى الدول الأوروبية لإكمال دراستي في الفنون. في ذلك الوقت، كثيرًا ما كنت أفكر أنّني إذا غادرت سوريا فلن أعود إليها إلاّ بعد سنوات عديدة، سائحة وحسب!
في عام 2011 بدأت موجة “الربيع العربي” وكنت لا أزال طالبة، أتذكر جيدًا كل ذلك الأمل الذي اجتاحني مع شريحة كبيرة من الشباب الذين أعرفهم. حينها، فكرت بكل إيمان أنني لن أغادر سوريا أبدًا، إذا ما بدأ التغيير فيها، وإذا كان هناك أمل بالخلاص من الاستبداد والحصول على بعض الحريّات والحقوق الاجتماعية.
ولتحقيق هذا الحلم، خرجت كغيري من الشباب السوريّ إلى الشوارع، نطلق صيحتنا بـ : حريّة! سلميّة!. لم يقبل الاستبداد وجود سلميّين يطالبون بالحرية، فواجهنا بالنار.
في تلك الأثناء لم يحرّك العالم ساكنًا، كان يتفرّج على تزايد موتنا واعتقالنا وتهجيرنا. وعلى استحياء كانت تخرج بعض تصريحات سياسيّة لا هي تدين النظام، ولا هي تنصف المتظاهرين. فالعالم لم يتعامل مع السوريين كشركاء في الإنسانية، وكبشر لديهم الحق بالمطالبة بالحقوق ذاتها التي “يتمتع بها ويتبنّاها” المجتمع والسياسة الأوروبيون.
كثيرون سوّقوا لسكان الشرق الأوسط بصفتهم كتلة واحدة وهي أقلّ تحضّرًا ومدنيّة، من الغرب، وأيضًا أقلّ قدرة على التطوّر. هذه هي الصورة النمطيّة، التي ترسّخت في الأذهان، وبات كثيرون من سكّان الغرب يخافونها!
وكان موقف الاتحاد الأوروبّي الأكثر لَبْسًا، حتى الآن، تجاه ما يحدث في سوريّا من قتل لآلاف البشر، واعتقال آلاف آخرين، وتهجير ما يقارب نصف سكانها!
إنّما موقف الأوروبّيّين غير الملتبس، يكمن في قلقهم ممّا يسمّونه “أزمة اللاجئين”، التي اختصروا بها القضية السورية كلّها، حتى أضحت الأزمة التي تهدّد رتابة حياتهم، فاقتصر همّهم على وقف تدفّق اللاجئين إلى بلدانهم، وكأن اللاجئين وباء يجب أن يبقى خارج الحدود، دون أن يكترثوا بمعاناة الشعب داخل سوريا.
نعم الإنسانية تقاس بحسب الموقع الجغرافي لأصحاب المعاناة. والتعامل مع كل قضية ينطلق من مقدار تأثيرها و”خطرها” على المجتمع الأوروبّي “المقدّس”، وضرورة الحفاظ على قدسيّته من أمواج “التخلّف” و”العنف” التي يحملها اللاجئون معهم، فاللاجئون ملابسهم رثّة، أيديهم ووجوههم متسخة، وملامحهم منهكة!
يالهؤلاء اللاجئين! لماذا لم يهربوا من الحرب بكامل أناقتهم؟! ولماذا لم يعبروا البحر على يخوت فخمة، وهم يشربون النبيذ ويتأملون النجوم؟! وكيف أنّهم لم يحافظوا على نظافتهم وابتساماتهم بعد سيرهم على الأقدام آلاف الكيلومترات؟!
يصل اللاجئ إلى أوروبا منهكًا، يائسًا حتى الرمق الأخير، وشعور بالذنب يلوك قلبه، تجاه من تركهم وراءه من الأهل والأصدقاء تحاصرهم الحرب والجوع واحتمال موتهم اليوميّ. وإن حدث ومات أحدهم، فلا وقت للاجئ ليحزن كما يليق بالموت، فعليه أن ينشغل بالاندماج في مجتمعه الجديد، الذي سيحاسبه، مدحًا أو قدحًا، على مدى اندماجه هذا!
أتساءل أحيانًا، هل من إنسان في العالم بمقدوره الذهاب إلى المدرسة وتعلّم اللغة وإلى العمل، أو التركيز عليهما، في اليوم الذي يمرض فيه أحد أبنائه مثلاً؟ فما بالنا إذا كان قد قُصف بيت أهله، الأهل الذين خلّفهم وراءه، ولم يعرف بعد من قضى منهم ومن نجا؟!
كثيرًا ما طُرِح في مختلف وسائل الإعلام، أن اللاجئين يحملون هواتف ذكية، وكأن حمل الهواتف الذكية لا يتناسب مع الصورة النمطيّة للاجئين “الفقراء” و”المتخلّفين”، وأصبح امتلاكهم لتلك الهواتف سببًا آخر لإدانتهم.
ربّما لو بقي اللاجئون من دون تواصل مع بلدهم لكان هذا أفضل لاندماجهم، فبهذه الطريقة لن يسمعو أخبار الموت هناك، ولن يتأثر اندماجهم في مجتمعهم الجديد، حتى لو لم يبق حجر ولا بشر في سوريا!
الحياة هنا غير معنيّة بالموت أو بالحرب الدائرة هناك، فلا معنى لإنسانيّة القتلى إن لم يموتوا داخل حدود أوروبا العظيمة النظيفةّ!
فلنغلق الحدود إذن في وجه اللاجئين، وليموتوا بعيدًا خارج أسوار مدننا، كي لا تتسخ شوارعنا وضمائرنا بجثث موتاهم!
كاتبة من سوريا.