هيثم حسين
عانى كثير من الأدباء والكتّاب والمفكّرين من الغربة والنفي واللجوء بعد أن أُجبروا على ترك بلدانهم لأسباب مختلفة، هناك مَن هاجر طلباً للأمان وهرباً من التهديدات التي كانت تلاحقه، وكان يمكن أن تودي به، وآخرون استوطنوا المنافي لأنّهم عاشوا الغربة في أوطانهم لكثير من الأسباب، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وقسم اختار الغربة وطناً مفترضاً لأنّه فقد الأمل في البقاء في ظلّ وطنه المفروض الذي لم يكن رؤوفاً بأبنائه.
بعد أن يستوطن الكاتب في منفاه أو مهجره، ويستقرّ لسنوات مُهندساً تفاصيل حياته وفق ظروفه هناك، ويتغلّب على مرارات البدايات ويطوّع آلامه ماضياً إلى غده، سيكون من الصعوبة عليه التأقلم مع المكان الذي لفظه، أو اختار الخروج منه، لكنّه يجد نفسه في أغلب الأحيان مسكوناً بتلك البلاد، مأسوراً إلى ذكرياته فيها، ومتّكئاً على ذاكرته في خلق عوالمه الروائيّة والأدبيّة، محاولاً التوفيق بين الأمكنة التي يسكنها، وتلك التي تسكنه.
إلى أيّ حدّ ينجح الكاتب في ترويض وحش المنفى؟ هل يمكن أن يتغلّب على قسوة الغربة ومرارتها بالكتابة؟ هل تكون ذكرياته عن وطنه زوّادته لحاضره ومستقبله الكتابيّ يستعين بها في كلّ عمل جديد وينهل من معينها الذي يتجدّد في خياله؟ هل من علاج لمحنة الغربة التي تظلّ ملتصقة بوجدانه؟ ألن يكون غريباً في بلده إذا قرّر بعد سنوات من المنفى والهجرة أن يعود إليه؟ ألن تكون البلاد نفسها بأهلها وتفاصيلها قد تغيّرت ولن تكون تلك التي يحتفظ بها في ذاكرته ويعيد رسمها كلّ مرّة في خياله؟
افتراضات كثيرة قد تواجه الكاتب العائد إلى وطنه الذي تركه في أوقات سابقة، تدور في فلك التملّص من تأدية الواجبات، وعدم الغفران نتيجة التنعّم بفراديس مَهاجره بعيداً عن آلام وطنه وأبناء شعبه، كما أنّه لن يعدم مَن يشكّك بكلّ ما كتب ويكتب ويقول، من منطلق ما قد ينعت بتجرّده من الالتزام بواجباته بالتحدّي والصمود والبقاء، وغير ذلك من الشعارات التي يسهل تكرارها على ألسنة مَن لم يعيشوا ظروفه حين اختار الخروج والابتعاد عن وطنه.
مَن جهة أخرى، ألا تكون الغربة التي يعيشها في الخارج أشدّ قسوة عليه من سياط الألسنة التي قد تنال منه وتتّهمه بما ليس فيه؟ هل الغربة أرحم في حالات كهذه؟ ألا يكون المنفى بحدّ ذاته عقاباً منقطع النظير، ولا سيّما أنّه عقاب متعاظم في روح صاحبه لا يمكن التغلّب عليه بأيّة طريقة؟ ألا تكون الكتابة إحدى سبل الأديب للتغّلب على وحشة منفاه ومأساته الشخصيّة فيها؟
يستذكر الأرجنتينيّ ألبرتو مانغويل في كتابه “مدينة الكلمات” بعض آراء الروائيّ الألمانيّ ألفريد دوبلن (1878-1957)، الذي كان قد اضطر لترك بلاده بعد صعود النازية، يذكر أنّه في عام 1945، عاد دوبلن من منفاه الأمريكيّ إلى ألمانيا كمسؤول تعليمي مفوّض، وخلال السنوات التالية ألقى عدداً من المحاضرات التي حاول فيها وضع مواطنيه المهزومين بمواجهة صورة هويّتهم المتشظّية. وكان يردّد حينها بأنّ الطريقة الوحيدة التي يمكن فيها لألمانيا التعافي بعد هتلر هي عبر إيجاد هويّة جمعيّة تدمج الحرّيّة الشخصيّة بـ”الموضوعيّة الصارمة”. لكن ذلك لم يرق لبعض أبناء بلده ممَن كانوا قد اختاروا البقاء أو أجبروا عليه لأنّ ظروفهم لم تسعفهم في الخروج.
يورد مانغويل حادثة وقعت لدوبلن مع بعض أبناء بلده، حين تحدّث في برلين عام 1948، قائلاً لجمهوره الألمانيّ: “عليكم أن تقبعوا بين الأنقاض لوقت طويل وتدعوها تؤثر فيكم، وتحسوا بالألم والمصيبة”. وفي تعقيبهم على حديثه، تذمّر الصحافيّون لأنّهم كانوا قد سمعوا نمط المحاججة هذا أغلب الأحيان، وأنه “لن يساعد بقدر أكبر لكونه صادراً عن كاتب شهير وضيف غير دائم”. وكان ردّ دوبلن: “لم تنصتوا للحديث. وحتى إن كنتم قد أنصتّم بآذانكم فإنّكم لم تفهموه، ولن تفهموه أبداً لأنّكم لا ترغبون في هذا”.
وهناك محاججة أخرى بين الاتّهام والإدانة والمرافعة، عندما اتهم كاتب بقي في ألمانيا خلال سنوات الحكم النازي مَن غادروا بأنهم يستمتعون بـ”كنبات وكراسي الهجرة الوثيرة”، ردّ دوبلن: “أن ترحل من بلد إلى آخر– أن تفقد كل ما تعرفه، كلّ ما كان قد غذّاك، أن تكون في ارتحال دائم وأن تعيش لسنوات كمتسوّل فيما أنت لا تزال قوياً، ولكنك تعيش في المنفى– هذا ما تبدو عليه “كنبتي” و”كرسيّي” في المنفى”.
يشير مانغويل كذلك إلى أنّه كما كان دوبلن يعرف، في معظم الأحيان يكون دور المبدع مماثلاً لدور كاساندرا الكاهنة اليونانية التي وهبها أبولو نعمة النبوءة بشرط أن لا يصدقها أحد، ويجد أنّ معظم المبدعين يعاني من لعنة كاساندرا التي تتمثّل في عزوف القرّاء عن الإنصات.
يبحث الكاتب المغترب لبلاده عن العدالة التي ينشدها في أعماله وحياته، يبحث عن الأمان والسلام، لا يستطيع الوقوف في وجه أمواج العنف والاقتتال والاستبداد السائدة الطاردة للمسالمين أمثاله، يشهر قلمه في وجه كلّ تلك القوى الإجراميّة، يدأب على تعريتها، يستمرّ متحدّياً إيّاها في حلّه وترحاله، يوثّق للتاريخ الذي لا ينصف في معظم حقبه، لكنّه يظلّ ديوان العِبر والحكم عبر الزمن.
لا يكون المنفى بمعنى من المعاني سالباً للمرء ومحبطاً إيّاه، ولا يبقى ذاك الوحش المتناسل عبر الزمن، الوحش الذي يظلّ في صراع شرس مع الأدب، ودافعاً للإبداع كذلك. فقد يتحوّل إلى محنة منتجة حين يطوّعه الأديب بقلمه وفكره وتفهّمه العميق له. وقد يتحوّل إلى طاقة إلهام لا تنضب، وبخاصّة إذا أتقن الكاتب ترويض وحوشه ومشقّاته بصيغة يؤهّل فيها نفسه ويمنحها مقوّمات البقاء والاستمرار، متسامياً على جراحه اليوميّة وغربته المتعاظمة في كيانه، باحثاً عن معاني أسمى للانتماء والحرّيّة، معالجاً جراح الزمن بالإبداع، مسكوناً بالداخل الذي هجره، وهو في خارج يطوّعه كي يحتفظ بقواه مشحوذة لمواجهة أعداء الحرّيّة والإنسانيّة.
اقتباسات
دور المبدع يشبه دور كاساندرا الكاهنة اليونانية التي وهبها أبولو نعمة النبوءة بشرط أن لا يصدقها أحد، ومعظم المبدعين يعاني من لعنة كاساندرا التي تتمثّل في عزوف القرّاء عن الإنصات.
اتهم كاتب بقي في ألمانيا خلال سنوات الحكم النازي مَن غادروا بأنهم يستمتعون بـ”كنبات وكراسي الهجرة الوثيرة”.
اقرأ أيضاً: