طارق عزيزة *
ما أكثرها تلك المفاهيم أو “الكلمات الكبيرة” شائعة الاستخدام والمتداولة بكثرة التي لا بد من التفكير بها والتدقيق في معانيها. فهي بمقدار ما تبدو عليه من بساطة و”بداهة” ووضوح لدى مستخدميها، إلا أنها في حقيقة الأمر بالغة التعقيد، إشكالية، بل ولا تخلو من الغموض أيضاً، إذ تحتمل أوجه فهم متعددة، لكل منها موجباته ووجاهته.
أما ما يدفع للقول بضرورة إعادة النظر والتفكير ملياً في مدى الصحّة أو “البداهة” التي يُفترض أن معاني تلك الكلمات تحوزها، فلأنها ليست شأناً نظرياً بحتاً، ذلك أن الكيفية التي يفهمها من خلالها كل شخص، ومن ثم سلوكه وطريقة تصرّفه في ضوء هذا الفهم إزاء كل ما يتعلّق بها، تؤثر بشكل كبير في الكثير من الأمور العملية والمواقف التي يتخذها في حياته الواقعية.
من بين تلك الكلمات/المفاهيم: “الوطن”، وهو ما أودّ في هذه العجالة إثارة بعض الأفكار والتساؤلات حول معناه، دون الادّعاء بجدّتها أو صوابيتها، وإنما على سبيل التمرين الذهني والدعوة لبسط النقاش في الموضوع.
هل “الوطن” هو تلك البقعة الجغرافية من الأرض، التي يولد المرء فيها ويعيش عمره وتفاصيل حياته بين تضاريسها ووسط الناس الذين يقطنونها فحسب، أمّ أنّ أهلية تلك الأرض لأن تكون “الوطن” على نحو ما يُحمّل في الاستخدام الشائع من قيمة إيجابية، رهنٌ أيضاً بأن تتحقق فيه كرامة الفرد الإنسانية، بما يتضمنه ذلك من ممارسته حقوقه بحرية وقيامه بواجباته التي من المفترض أن تنتج عن رابطة “المواطنة”، أي العلاقة التي تربط الفرد بذلك “الوطن”؟ وبالتالي، ما الذي يتبقّى من معنى “الوطن” بعد أن يتمّ احتكاره من قبل طغمة مستبدة تماهيه بمصالحها، وتختزله بـ”القائد”، فتضيّق عيش “المواطنين”، تصادر حقوقهم وتغرّبهم عن وطنهم وهم فيه؟ وعلى اعتبار أنّ “الوطن” و”المنفى” يحضران في الذهن كمتقابلين، أفليست غربة الناس عن “الوطن” وهم فيه إحدى أقسى تجليات”المنفى”بما يعنيه من بعد وغربة؟
ولما كانت “الهوية” من المفاهيم والكلمات التي كثيراً ما تحضر في سياق المواضيع والمناقشات التي تتناول الكلمتين/ المفهومين السابقين (الوطن والمنفى)، يحضر السؤال: هل يختصر مكان الولادة، أو اللغة الأم، أو دين الآباء، أو سواها من محمولات الفرد التي يتلقاها دون خيار، هل يختصر أيّ منها “الهوية”، أم أنّ شخصيّة الإنسان وما اختاره لنفسه من قناعات وأفكار وأسلوب حياة هي معاً ما يصوغ هويته؟ ما يعني، وهذه الحال، أن مسألة “الهوية” تكفّ عن أن تكون نابعة من مكان بعينه، وبالتالي لصيقة بالفرد لأسباب جغرافية بحتة، في حين أن هذا المعطى المكاني وما يماثله من معطيات موضوعية خارجة عن خيار الفرد، ليس كلّ منها سوى جزء أو مستوى من بين أجزاء ومستويات متعددة، تتشكّل “الهوية” كمحصلة لتراكب تلك الأجزاء والمستويات معاً، مضافاً إليها تعيينات الفرد الذاتية الناجمة عن خياراته الحرة.
لعل من مخاطر ربط “الهوية” واختصارها بـ”الوطن” القائم على مفهوم مكانيّ، أن هذا الربط ينطوي على ضرب من الثبات والجمود، يقود إلى التمترس خلف “انتماء” بعينه، وتوهم أنه”هوية” نهائية، وهذا الأمر يحدّ من قدرة الفرد على التطور والتكيّف والتأقلم مع شروط حياته المتغيّرة بالضرورة، لا سيما في وضعية “اللجوء”، فاللاجئ والنازح والمنفي، هم أحوج الناس إلى تجاوز اليقينيات الزائفة، التي لن تؤدي سوى إلى الانغلاق والتقوقع على الذات تحت شعارات “الخصوصية” وعقدة “الأجنبي”.
في المقابل، سينهض البديل عبر الاستناد إلى غنى الهوية الإنسانية وتنوعها، وتعزيز ذلك من خلال الانفتاح على “الآخر” المختلف، مما يتيح توسيع دائرة المعطيات التي تصوغ الهوية وتشكّلها، عوضاً عن البقاء في أسر ما أسماه محقاً الكاتب اللبناني- الفرنسي أمين معلوف “الناحية المضلِّلة في الهوية”، وكان يعني بها أن الإنسان في أوقات كثيرة، يستعيض عن الهوية بعنصرٍ ما منها، ويعتبر أن هذا العنصر يختزل أو يختصر كلّ الهوية، بينما الهوية مركّبة من عناصر عدّة.
إنّ تفكيراً مختلفاً يسائل “بداهة” الكلمات الكبيرة من شأنه أن يقترح معانٍ مختلفة لها. وعليه، ربما يكون من المفيد مثلاً أن ندع الجغرافيا جانباً لنقول:حيث تكون حراً، آمناً، وقادراً على تحقيق ذاتك.. يكون “الوطن”.
اقرأ أيضاً: