راتب شعبو * امرأة ثمانينية نشيطة أكثر من الصبايا، تقاوم العمر بالعمل التطوعي في جمعية أهلية لتعليم اللغة الفرنسية، بعد أن صارت في سن التقاعد. تتحرك كالنابض أمام اللوح وهي تشرح الدرس الفرنسي لمجموعة من الحضور المختلفين بالجنس والجنسية واللون والعمر والوضع القانوني وسبب الوجود في فرنسا، مختلفون في كل شيء سوى الشعور بالغربة عن اللغة الفرنسية التي تجتهد المعلمة الفرنسية في إدخالها إلى رؤوسهم وقلوبهم أيضاً.
درسُ اليوم لا يحتاج إلى قواميس أو هواتف ذكية لمعرفة معانى الكلمات، الدرس عن أعضاء الجسم، يكفي أن تشير المعلمة إلى الأنف أو العين أو الفم في وجهها الذي لا ينكر سنوات العمر، على الضد من جسمها الرشيق وحيويتها الظاهرة. ولكي تدل على المؤخرة، استدارت المعلمة ووضعت يديها على مؤخرتها، بالحياد الجنسي المألوف عند العجائز، وقالت بصوت عال “فيس”، ثم ضحكت ضحكة خفيفة وقالت أيضاً “كي”، لفظت الياء بطريقة ملتوية، كأنك تلفظ الياء بينما أنت تضم شفتيك لتلفظ حرف الواو، وأردفت، لا تقولوا هذه الكلمة هنا لأنها بذيئة. يحتفظ الذهن بهذا التنبيه، دون أن يكون لديك شعور بحيادية تلك الكلمة أو بذاءة هذه.
لا طعم مميز للكلمة في اللغة الجديدة. حين تضطر إلى استخدام لغة ثانية غير لغتك الأم لتكون هي لغتك التواصلية مع الأهالي، فإن هذه اللغة تصلك بمفردات الحياة بلا إحساس أو شعور، تصلك بالحياة ببلادة تشبه بلادة شعورك بملمس الأشياء وأنت ترتدي قفازات سميكة. تقول في نفسك مواسياً، لا بد أن تصنع الكلمات الجديدة لنفسها، مع الوقت، طعمها الخاص في ذهنك، كما لا بد أن يهترئ القفاز مع الوقت ويسمح لأصابعك بملامسة الأشياء.
يزيد من حيادية اللغة الجديدة وبلادة الشعور بها أنه ليس لدينا، نحن أبناء اللغة العربية، تنويعات على حرف الواو كما يتطلب اللفظ الفرنسي، وليس بسيطاً الالتباس الناجم عن عدم التمييز بين هذه التنويعات الفرنسية. مثلاً، لا يفصل بين (كور) القلب و(كور) الجسم، سوى تنويعة الواو غير الموجودة في اللغة العربية، وغالباً ما تسيطر لفظة (كور) الجسم، عند أبناء العربية لأن لـ”واوها” ما يقابلها في اللفظ العربي، على خلاف الواو في الـ(كور) الأخرى التي يبدو لنا لفظها مخنثاً أو مائعاً. كم سيكون الفارق كبيراً مثلاً بين أن تقول “وهبتك قلبي”، وأن تقول “وهبتك جسمي”؟ والأمر يتوقف ببساطة على إجادة لفظ تنويعات الواو الفرنسية. المشكلة اللفظية تعود هنا لتعزز الانفصال بين اللفظة والشعور بها.
هذا دون أن نذكر المشكلة الدائمة عند الناطقين بالعربية في عدم التمييز بين باء وباء، لا وجود عندنا للباء اللاتينية الانفجارية، كل الباءات بالنسبة لنا هي باء عربية، ليس ذنبنا أننا نخلط في اللفظ الانكليزي مثلاً بين فعل “يصلي” وفعل “ينهق”. ولكن، بعد كل شيء، يعتاد الناس هنا على لفظنا، ويصححون تلقائياً أخطاءنا، وكثيراً ما يعبرون عن حبهم لطريقتنا في اللفظ، يقولون إنها “أكسان” (يجب القول إن النون لا تلفظ هنا بل تستبدل بخنة) حلوة، وقلما يضحكون على أخطائنا.
دخلت منذ فترة إلى مخزن فوجدت امرأةً تتكلم مع البائع باللغة العربية، هكذا بكل طبيعية ودون أن تبالي بشيء، فكما الدين عند الله الإسلام، كذلك اللغة عند العرب هي العربية! البائع ينظر إليها باستغراب فيما هي تواصل شرح ما تريد وكأنها تتكلم إلى بائع سوري في دمشق. تدخلت وسألتها ماذا تريد أن تشتري، التفتت إلي وقالت بجدية تامة مخلوطة بشيء من النرفزة: “العمى بعيونو ما بيفهم، صرلي ساعة بقلو بدي قهوة عربية”.
مثل هذا الاستبداد اللغوي الطفولي حصل لي مرة في صالة انتظار بعد فترة وجيزة من وصولي إلى فرنسا، كان إلى جواري رجل وامرأة يتحدثان دون انقطاع، ومع الوقت راح يتشكل في داخلي غيظ منهما ورحت أقول في نفسي، لا بد أن يستحيا بعد كل هذا الوقت، ويبدأا الحديث باللغة العربية. كما لو أن اللغة العربية هي لغة العالم وكل لغة أخرى هي لغة ثانية ودخيلة، ويستحسن هجر الحديث بها أو عدم التمادي في الحديث بها على أقل تقدير، والعودة للتكلم باللغة الأم التي هي العربية بالطبع، وهل من لغة أخرى تنافسها؟
راتب شعبو * كاتب وصحفي سوري مقيم في فرنسا
اقرأ أيضاً