كفاح علي ديب
هناك، كانت شرفة بيتي، ذلك حين كان عندي بيت في دمشق، تطلّ على حقل زنزلخت، في أخر الحقل، كانت تشرئبّ شجرة حور كبيرة، وخلفها تلّة بنيت عليها ثكنة عسكرية، ومن ورائهما، قمر كان يطلّ، وكنت أراقبه يصعد بهدوء في السماء، لتكتمل استدارته ليلة بعد ليلة،
من على التلة كانت تنطلق كلّ ليلة قذيفة، لم تكن تصيب القمر، بل كانت تهوي على شرفة بيت أحدهم، بهلع كنت أراها، من على شرفتي.
وفي بيتي، ذلك حين كان عندي بيت في دمشق، كانت طاولة خشبية تطلّ من شبّاك مطبخي على شرفة جاري الجميل. على الطاولة، كانت أصص صبّار صغيرة، وأصيص بنفسج، كلّ صباح كان الجار يراقبني وأنا أسقي البنفسج، فأبتسم له كمن يقول: صباح الخير، يا جاري الجميل!
ذات مساء، اعتقلني رجال الأمن، وبينما كانوا يقودونني مكبّلة في الشارع، رفعت رأسي لأودّع جاري الجميل، كان يراقب ويبتسم كمن يقول: لقد وشيتُ بكِ!
لكن ولأوّل مرة لفتني، جار ثان يقف على شرفته، لم أدقق لأتأكّد إن كان جميلاً، ولم أبتسم له، كان ينظر إليّ ماسحًا دموعه!
في بيتي عندما عدت من السجن، كانت القذيفة قد صارت قذائف، والصبّار على الطاولة لم يقوَ على الصبر فمات، وأصيص فارغ كان لا يزال يطلّ مكرهًا من شبّاك مطبخي على شرفة جاري الجميل!
أمّا هنا فإلى يمين شرفتي توجد حديقة للأطفال، تملأ أصواتهم الحارة، ومن جهة أخرى، تطلّ على (ترّاس) الجيران في البناية المقابلة.
في الصيف كان الترّاس يضجّ بالحياة، ومن على شرفتي، بينما كنت أسقي الورود، كنت أراقب جاري وهو يهتم بأصص وروده أيضًا، وبالشجيرتين الصغيرتين في الزاوية، كنا نتبادل التحيّة، فيقول مبتسمًا: نهارك جميل! وأرد عليه: نهارك سعيد!
في المساء، كنت أجلس على شرفتي، ويجلس هو على ترّاسه، ونرفع نخبيْنا.
ولّى الخريف وحضر الشتاء، لم يعد جاري يخرج إلى الترّاس، وأنا كذلك لم أعد أجلس على الشرفة، لكنني مازلت أقف كلّ يوم وراء الباب الزجاجي، أنظر إلى التراس والشرفة الكئيبين، بعد أن قتل البرد ورود الأصص الموزعة عليهما.
البرد قاتل أيضًا، كما القذيفة، لكن لكلّ منهما نواياه وسبله المختلفة!
في الصيف ستنبت الجذور وتخضرّ، وتملأ الأصص بالورود من جديد. ولعلّ في الصيف القادم، هناك حيث كان عندي بيت وشرفة، ستنتهي الحرب، ويعيد من بقي على قيد الحياة بناء شرفات منازلهم، وعلى تلك التلة التي لا بدّ ستفرغ من العسكر، سيزرعون أشجار الحور.