روزا ياسين حسن*
امرأة عجوز كانت تلك التي نادتني بصوت أبحّ، مرمية على الأرض الرطبة من أمطار تكاد لا تتوقف في هذه المدينة الشمالية! تضاريس وجهها المتعب تشبه سماء رمادية تهبط على رؤوسنا. أشارت إلى فمها وصاحت بأنها جائعة. واحدة من عشرات الجثث الحيّة، المرميّة على الرصيف، في الشارع الطويل الممتد شمال محطة القطار الرئيسية.
خلف العجوز ثمة مطعم للوجبات التركية، بجانبه: ملك الدجاج العربي، على بعد خطوتين مطعم للفول والحمص. مئات المطاعم، محلات البقالة، ودكاكين الخضار والفواكه. كل الأطايب الشرقية تجدها هنا في هذه القطعة من العالم تلك التي تسمى: “شارع العرب في هامبورغ/ شتايندام“. ولا أعرف لم يسمّونه هكذا، رغم الخليط الكبير من الأتراك والأكراد والأفغان والإيرانيين والعرب الذي يضمّه.
هنا لا يمكنك أن تلمح وجهًا “ألمانيًا”، السحن الشرقية الملونة هي التي تعجّ المنطقة بها. فجأة، وحينما تقطع الحدود غير المرئية بين المدينة وهذا الحيّ الملّون، ستلفي نفسك في عالم آخر، كأنك انتقلت عبر الزمان والمكان، هجرة ثقافية قسرية.
في الحقيقة تلك الأشكال الهائمة من التسوّل لا تجدها هنا فحسب، هي مسفوحة في كل المدينة، تحت الجسور، على النواصي، في مداخل البنايات، وأمام السوبرماركات. كثيرًا ما اكتشفت الشرطة صباحًا أشخاصًا منهم قضوا في صقيع الليل.
كلما ازداد أهل المدينة غنىً ازدادت أعداد متسوّليها. ولكل منهم سبب للتسوّل: هناك تسوّل إيديولوجي، أناس ترفض الدخول في عجلة الرأسمال، ترفض ماله وأعماله وتبقى في المنطقة المحايدة الخارجة عنه: الشوارع.
أناسٌ مشرّدة، أناسٌ تتسوّل للتسلية! ولكن هنا، في هذه القطعة من المدينة، تتسوّل الناس لأسباب وبأشكال مختلفة: عجائز، نساء مع رضع، رجال معاقون، دون أرجل دون أيدٍ، وعند عتبات محلات الذهب والمجوهرات، تلك التي تسطع بموديلات شرقية مبهرجة، يتوسدون الحجارة طيلة النهار وأطراف الليل.
تحاذيني فتاة متوسطة العمر، ترتدي جوارب شبكية وتنورة لا يتجاوز طولها طول كف اليد. وجهها يعاني من طبقات المساحيق المتراكمة، وترمقني بمزورّة. واحدة من عشرات العاهرات اللواتي يزرعن الطريق في “شارع العرب في هامبورغ/ شتايندام”. عاهرات يتكئن على أبواب بيوت الدعارة، كازينوهات القمار، أو حانات التعرّي، أو متاجر السكس حيث الأعضاء الجنسية البلاستيكية والثياب والصور المثيرة والأفلام الجنسية تُعرض على الواجهات التي يمتلئ الشارع بها.
للحظة ولسبب ما تذكرت ما كنت أفكّر فيه قبل أن أدخل الشارع، عينا تلك الفتاة جعلاني أتذكر: كنت أفكّر بسعادتي، كنت أفكر كيف أنها حقيبة صغيرة ملّونة للمكياج، نسيتها هناك في دمشق، على إفريز نافذة آخر بيت سكنته، وأتيت هنا!
فجأة تنبع جموع من الرجال وتنسفح في المكان، جموع تبدو خارجة من زمن آخر، بعضهم يرتدي جلابيات قصيرة، بعضهم جلابيات طويلة، وبعضهم يبدو شديد العادية بثيابه. كثير منهم بلحى طليقة، وبعضهم حليقي الوجوه! جموع المصلين تخرج من الجوامع الثلاثة المنتشرة أيضًا على طول الشارع، يحاذون العاهرات اللواتي يتأهّبن لالتقاط الزبائن، يحاذون بائعي المخدرات الذين يحتلون الزوايا ويرمقون عيون المارة بحثًا عن إشارة. يخرج جمع المصلين من صلاتهم “الميتافيزيقية” ليغرقوا في الشارع المغرق “بماديته”: مطاعم، مقاهٍ، محلات طعام، أماكن قمار، محلات جنس، مهربي مخدرات، عاهرات، قوادون، وجوامع، ولا توجد ولا مكتبة واحدة أو صالة ثقافية على طول الطريق: أهلا بكم في الشرق!
لسبب لا أعيه تمامًا أشعر بالاختناق كلما دخلت هذه المنطقة! هل لأني أنظر إلى مرآة تعكس مجتمعاتنا؟ أم لأن هذا التكثيف الشديد يخنقني؟ أم لأني عشت، ككثير من مثقفي بلدي، في فقاعة وردية؟ أم ليس لأي سبب من هذه الأسباب سوى أن الشرطة التي تنتشر في كل الزوايا، والقمامة التي تمتلئ الأرض بها، وروائح الحشيش التي تعبق في الأجواء، تمسك بتلابيبي وتكاد تخنقني!
أنعطف إلى اليسار لأدخل الحي الملاصق لـ”شارع العرب في هامبورغ/ شتايندام”. هو “حي الفنانين”. هنا تلمح وجوهًا مختلفة! كانت هذه المنطقة للفنانين الذين عانوا الاضطهاد سابقًا من نظام هتلر، ومنهم الكثير من مثليي الجنس. اليوم أصبحت منطقتهم من أغلى مناطق المدينة، خصوصًا وأنها مليئة يصالات العرض والمطاعم الراقية. يمكنك أن تشعر بجدار عالٍ وسميك، لكنه لا مرئي، يفصل المنطقتين المتناقضتين المتلاصقين! يكاد المرء يشعر بأنه انتقل من زمن إلى زمن آخر خلال دقائق، حتى الروائح تختلف هنا! أشبه بدلالة ملموسة تعكس ذلك الفصل المفروض بين الشرق والغرب، بالأحرى بين الشمال والجنوب.
طرد محكم ذاك الذي يعلّب الشرق ومواطنيه هنا. كأن الجميع مجبر، لمجرد أنهم خلقوا في الشرق، أن يدخلوا صاغرين إلى ذلك الطرد ويلبثوا فيه راضين. بالتأكيد ثمة الكثير ممن يتجازونه كل يوم، ولكنهم في المحصلة لا يشكلون إلا نسبة ومن كلا الطرفين!
لكن، وككل كاتبة وكاتب، عليّ أن أعود إلى شرقي المكثّف، ليس لآخذ منه رحيق الكتابة فحسب، بل لأني أحتاج “حوائجه” في حياتي هنا. وككل كاتبة أخرج منه وأنا أشدّ اقتناعًا بأن عليّ وظيفة مضاعفة تتمثل أولاً في كتابة تفاصيله تلك التي تختبئ في الزوايا والختلات، وتعريض كل ذاك العفن للشمس علّه يتفكك، وفي الجهة المقابلة أن أفكّ الأشرطة الثقيلة تلك التي تعلّب الشرق في أوروبا كطرد بريدي!
روزا ياسين حسن. روائية وكاتبة سورية مقيمة في ألمانيا
اقرأ/ي أيضاً:
العلمانية.. حافظة الموزاييك السوري
المشي في حقل الألغام.. العمل النسائي المدني في سوريا
هل الحجاب هوية إسلامية حقاً؟ في أصل الحجاب ومنشأه وتفسيراته
هل هي الديمقراطية، أم أن الأمر أشدّ خطورة؟