مجموعة فتيات يجلسن في نهاية خشبة المسرح، ينتظرن المشاهدين ليأخذوا أماكنهم. الكاميرا على طرف الخشبة وكرسيٌّ في الوسط تماماً.. يظلم المسرح ويُسلَّط ضوءٌ واحد على الكرسي وتبدأ المقابلة مع الفتاة الأولى.
تتلخص فكرة المسرحية في إجراء تجارب أداء (كاستينغ) لاختيار فتاة سورية غير محترفة لتمثيل دور “إيفيغينيا” في مسرحية يوريبيدس الشهيرة، تتقدم مجموعة من الفتيات للحصول على هذا الدور، ونستمع لكلٍ منهن وهي تجيب على أسئلة “المشرفة على التجارب” التي تقف خلف الكاميرا، وعلى شاشة كبيرة على المسرح تُعرض وجوه الفتيات عن قرب.. ملامحهن وهن يبحن بحقيقةٍ ويخفين أخرى.
المسرحية هي جزء من ثلاثية للكاتب محمد العطار والمخرج عمر أبو سعدة تستلهم التراجيديا الإغريقية، بدأت عام 2013 في الأردن مع مشروعٍ حمل اسم “نساء طروادة”، والمشروع الثاني كان في بيروت ويدعى “أنتيغون”، وختامها كان في برلين مع مع “إيفيغينيا”. وكان لأبواب لقاءٌ مع الكاتب محمد العطار في دردشة تلت العرض حدثنا فيها عن العمل وعن مشروعه المستقبل..
فكرة المسرحية بعيداً عن القصص المكررة
يقول العطار، إن مشروع الثلاثية كان بمثابة محاولةٍ متواصلة لتقصي رحلة الشتات القسري السوري من وجهة نظر النساء وحكاياتهنّ، ورسم خريطة مجازية لمآلات وانعكاسات الشتات السوري ما بين مواجهة الموت الحتمي في الداخل إلى رحلات النزوح ثم اللجوء، وصولاً إلى محاولة فهم أنفسنا في “المنفى الحالي” أينما كان، حيث يمكن أن تكون المرحلة هي للبدايات الجديدة وسؤال الهوية والمستقبل. يؤكد الكاتب رغم ذلك أن المشروع لا يدَّعي تمثيل الحالة السورية بالمجمل، وإنما يسعى لإعلاء الحكاية والصوت الفردي، فكل قصةٍ تستحق أن تروى في محاولةٍ لفهم الحالة العامة ضمن سرديات النساء التي غالباً ما تكون مغيّبة.
ومن هنا يأخذنا العرض إلى حيث تقص نساء صغيرات صدَفَ أنهن لاجئات قصص ترحالهن بنكهات ولهجات ولأسباب مختلفة، ولكن تجمعهن المرارة والوحدة. وقد شكّل العرض –بحسب الصحافة الألمانية- تحدياً للمتفرج ليفكر في قصص أولئك النساء خارج الصور النمطية للاجئين.
نحن حياتنا كاملة… وليس فقط قصة لجوء
نرى ونسمع أسباب ودوافع كل فتاة وراء رغبتها في الحصول على هذا الدور، فنسمع الأسباب التي تقال أمام الكاميرا أثناء تجربة الأداء، ثم الأسباب العميقة التي تقال بعد إطفاء الكاميرا. منهنّ من تريده سعياً إلى مغامرة جديدة ومنهن من تريده لتجد كيانها وشخصيتها ومنهن من تريده فقط للحصول على المال والتخلص من تبعيتها للجوب سنتر، ولكننا نسمع ونرى هذه الأسباب في إطار من الدراما والبوح الشخصي المرتبط أيضاً مع قصصهن في الماضي الذي تركنه وراءهن حين غادرن الوطن.
يخبرنا العطار أن الفتيات بالفعل لسن ممثلاتٍ محترفات، وأن ما يروينه للجمهور هو قصصهن الحقيقية وتجربة كلٍ منهن الخاصة. ولذلك فإنّ أسئلة المخرجة (أو المشرفة على الكاستينغ) أثناء تجارب الأداء تلمس عمق كل فتاة، وتأتي الإجابات مع وجعٍ حقيقي، ولكن مع محاولاتٍ حثيثة للخروج من الإطار القاتم المعتاد في عرض عذابات رحلة البحر مثلاً أو الرعب الذي رافقها.
يصر القائمون على العمل على الابتعاد عن هذه القتامة التي لطالما طغت على الصورة العامة للاجئين، بتقديم هؤلاء الفتيات لقصصهنّ المغايرة تماماً لما سبق، ففي النهاية جمعتهن مغامرة السفر وحيداتٍ، ثم مغامرة التمثيل ومعها رحلة البحث عن المستقبل.
هذا ما يميز إيفيغينيا..
مع تعدد الأعمال التي تناولت بوح النساء وتجارب لجوئهنّ، يرى العطار أن أكثر ما يميز “إيفيغينيا” عن باقي الأعمال الفنية هو أنها لم تتناول مآسي البلم، بل إنّ إحدى المتنافسات على الدور عبرت عن ضيق صبرها إزاء اختزال حياتها إلى هذا الجانب فقط “لا أريد أن أتكلم عن طريقة قدومي في البحر.. أنا شخص عندي حياة قبل البحر وبعده ولا أريد اختصارها فقط في الرحلة البحرية القصيرة”.
كما حاولت المسرحية أن تبتعد تماماً عن إضفاء صورة الضحية على أي من الفتيات، رغم ذلك لا يمكن لحكاياتهنّ ألا يصبغها طابع الحزن، ولكن من حيث ما تفرضه العلاقة مع الأماكن الجديدة وما تطرحه من أعباء وتساؤلات وردود أفعال، قد تتشابه بطبيعة الحال لدى فتيات في أوائل العشرينيات شكايتهنّ الكبرى هي الوحدة، والبحث الدائم عن الحب أو المستقبل أو الهدف، وأيضاً تترافق مع تخلص بعضهن حتى من أحاسيس الافتقاد والحنين، للتعامل مع المغامرة الجديدة.
لحظات الحقيقة.. بوحٌ أمام غرباء
وتتوالى الأسئلة والإجابات مع كل فتاة لترتدّ بعدها إلى المشاهدين باختلاف جنسياتهم، في فيض الألم والحقيقة حين تصرُّ كلٌ منهنّ على الإمساك بلحظة الجرأة والرغبة بالتمثيل على المسرح والقدرة على البوح أمام غرباء فيما قد يكون عاملاً للخلاص والانتقال خطواتٍ إلى الأمام.
لاسيما أن الفتيات حين يجبن عن الأسئلة إنما يعبرن عن قناعاتهن الشخصية فعلاً، فلا يمكن تجاهل أهمية سؤال وجهته المخرجة للفتاة المحجبة “ألا يتعارض حجابك مع التمثيل” واستفزازها بأنها هل ستقبل الدور إن كان عليها أن تقبّل ممثلاً في المسرحية. يظهر أيضاً نفاذ صبر إحدى الفتيات من احتمال أن يكون المطلوب هو فقط فتاة سورية لاجئة تجيد الألمانية ومندمجة بشكل جيد.. “أم تريدون ممثلة؟ لأنني مللت من هذا الدور في حياتي الحقيقية”. ثم يأتي اعتراف أخرى بمحاولتها الانتحار.
رغم أن العمل لم يعتمد بنيةً درامية متصاعدة، إلا أنه قدم مجموعة مشاهد مستقلة لكل صبية ضمن الإطار العام لتجارب الأداء، بأسلوبٍ يستفز كلاً منهنّ ليتكشف الشبه بينها وبين إفيغينيا في لحظة المواجهة.
أين شبه الفتيات مع إفيغينيا؟
يقول العطار إن فريق العمل تعمد الابتعاد تماماً عن القصة الأصلية لإفيغينيا، فالهدف كان تسليط الضوء على قصة أي فتاة في مقتبل العمر تجد نفسها فجأةً في مواجهة انقلاب هائل في الحياة، لم يكن لها خيار به، ولكن عليها أن تواجهه.
كانت الفتاة في التراجيديا القديمة ستزف عروساً بعد أيام حين واجهت فجأةً قدراً لا يحمل لها سوى الموت في حربٍ مقدسة لا يد لها فيها. وهذه هي المقاربة الحقيقية، فالفتيات يتشابهن في العمر، الشجاعة في خوض مغامرة نحو مستقبل مجهول تماماً قد يحمل الموت، مع الرغبة الحثيثة في الحصول على الدور رغم اختلاف الدوافع.
ينتظرن جميعاً على الخشبة لحظة البدء، ثم قرار مشرفة الكاستينغ وفي لحظات الانتظار الأخيرة للنتيجة تنساب تفاصيل حياة كل منهن في ذلك البوح، وهو في الحقيقة الهدف الأساسي للمسرحية، أن تُسمع حكاياتهن بغض النظر عن ارتباطها وشبهها بإفيغينيا.
يشرح الكاتب أن ما نراه على الخشبة مشابهٌ جدا لما حصل في الواقع، عدد كبير من الفتيات تقدمن لتجارب الأداء وكانت حتى سلوكياتهم وتحركاتهم مشابهة للغاية لما رأيناه على المسرح، ربما لهذا شاب العرض بعض التكرار في الأداء وإنما حرصاً من فريق العمل على نقل الواقع بأمانة.
عن العمل القادم.. الحرب في وجهها المسكوت عنه
يحضر العطار الآن لمسرحية جديدة تتناول الجانب الآخر المجهول للحرب، من خلال تسليط الضوء على إحدى الشركات الأجنبية العاملة في شمال سوريا، وصفقاتها مع الأطراف المتقاتلة هناك عسكرياً وسياسياً، ومن ثم فضح التفاهمات المالية الخفية بين مستثمري الحرب والمتكسبين منها، والتورط الاقتصادي الغربي من خلال القطاع الخاص والمصالح الاقتصادية الضخمة بعيداً عن الطائفية وداعش والنظام.
إيفيغينيا للكاتب محمد العطّار والمخرج عمر أبو سعدة، سينوغرافيا بيسان الشريف
العرض الأخير في برلين في 19 أيار / مايو 2018 الساعة السابعة والنصف مساءً.
في القاعة الرئيسية من مسرح Volksbühne، في Rosa-Luxemburg-Platz.
حوار سعاد عباس.