وفاء صبيح | إعلامية سورية
كوافير نسائي، سيارة خاصة، ومنزل ملك، ثلاثية الاستقرار عند الخمسيني أبو محمد، لكن “دوام الحال من المحال”. المقتلة السورية ضغطت على لقمة عيش السوريين.
تراجع دخل ابو محمد لدرجة الصفر، أولاده الثلاثة يكبرون ولا يكبر معهم الدخل، الزلزال الاجتماعي الذي تعرض له أبو محمد -الذي تحفظ على ذكر اسمه الصريح، وأجاز لنا تسميته فقط “ابومحمد”- تجعل منه شخصًا بعلامة فارقة، رغم أنه ليس الوحيد بين السوريين الذي “طلقته زوجته”.
لم يبق الكثير من هيئة “النعمة” على وجه أبو محمد، تلمس بقاياها في حمرة خفيفة حول أنفه، يتحدث إليّ بشرود، ويدخن كثيرًا. حقا يعيش أزمة نفسية تجعل تركيزه أقلّ، ما يجعله يعجز مرة بعد مرة عن شرح الأسباب المباشرة وغير المباشرة للطلاق. حاولت مرارًا أن أعرف منه طبيعة “الخلافات العائلية البسيطة” التي بقيت متقدة في صدر زوجته لعام ونصف دون أن “تبرد” لدرجة أن تطلب الطلاق وتحصل عليه بعد شهر من قدومها لألمانيا. فشلت في الحصول على جواب! رده الدائم: “والله العظيم مشكلات من التي تحدث في البيوت عادة، صغيرة وتافهة”.
ما الأسباب التي تأخذ بشريكين “عاشا على الحلوة والمرة” كما يقال في الدارج السوري، إلى الافتراق في ظل مبررات غامضة، أو غير واضحة أو حتى مقنعة للسوريين. توجهنا بتلك الأسئلة إلى المرشدة الاجتماعية (فرحة خليل) العاملة في الإرشاد والترجمة، منذ ثلاث وعشرين سنة لدى المحاكم الألمانية. تلاحظ خليل: “انتشار هذه الظاهرة بكثرة بين اللاجئين السوريين بالمقارنة مع حالات الطلاق في السنوات السابقة”.
تقول بأسف: “ليس لدي إحصائيات دقيقة بهذا الخصوص، كون موجة الهجرة الأكبر كانت في 2015، والهم الأكبر كان وما زال للسلطات الألمانية تأمين السكن والطبابة ودراسة طلبات اللجوء”. لكن، هل الحرب في سوريا -التي ضغطت كثيرًا على الروابط الأسرية- هي السبب الوحيد لزيادة عدد حالات الطلاق بين السوريين في بلاد اللجوء؟ الباحثة خليل لا تنكر دور الحرب، وتضعها أولا لكنها تشير إلى زوايا رؤيا مختلفة للقضية، كالشعور بالاغتراب الذي يهيمن على الزوج والزوجة في بدايات هجرتهم.
ولا يغيب عن بال المرشدة الاجتماعية تتبع جذور المشكلة في الوطن الأم، فبعض النساء كنّ يعانين، أو يعشن مشاكل مع أزواجهن، وحين “تصل الواحدة منهنّ إلى أوروبا، تحاول وضع حد لمعاناتها ومشاكلها فتطلب الطلاق الذي غالبا ما يكون بداية لمشاكل جديدة من نوع آخر، وخاصة إذا كان لديها أطفال”.
لتكون النتيجة “تحول الأطفال إلى ضحايا مشاكل الوالدين في دول المهجر، وهو ما تعرض له أبو محمد، فابنته الكبرى -تحفظ على أسماء الأولاد- تبلغ سبعة عشر عامًا، والصغرى عشر سنوات، والشاب ستة عشر عامًا.
وأبو محمد الذي مشى “أياما وليال في دول العبور إلى ألمانيا”، ليعيد تدوير زوايا حياة أرهقتها الحرب حتى الوجع، و”ليضمن مستقبل أسرته”، لم يكن ليعلم أنه “بعد عام ونصف العام من الصبر” للحصول على لم الشمل، ستكون النتيجة أن “لا مستقبل سيجمع هذه الأسرة”.
الخمسيني أبو محمد، ليس الوحيد الذي أفقدته الحربُ استقراره الاجتماعي، لم يخطر بباله “أن خلافات أسرية بسيطة، فرضها ضيقُ الحال خلال فترة الحرب” أن تؤدي إلى الطلاق بعد “شهر من وصول الزوجة” التي وجدت “أن تلك الخلافات كانت تستدعي طلب الطلاق، فلجأت إلى البلديةِ مقدمة طلبها ذاك، وفي العرفِ الألماني إن لم ترغبْ الزوجة باستكمال حياتها مع الزوج يحق لها الطلاق، ويحق لها رعاية الأولاد” وبالفعل “تم الطلاق دون إرادتي” فبعد عشرين عامًا من الزواج “وجدتُ نفسي وحيدًا”، لا زوجة، لا أطفال، ولا أموال، فقبل قرار السفر واللجوء باع جميع أملاكه، محل الحلاقة النسائية الذي كان يملكه ويعمل فيه في دمشق، والسيارة والمنزل أيضًا.
التداعيات النفسية لحالات الطلاق تتعدى الأطفال الذين أشارت إليهم الأخصائية فرحة خليل، فأبو محمد يتذكر أن الطلاق سبب له حالة انهيار أدخلته المستشفى، و”إحساسًا رهيبًا بالضياع” وازداد إحساسه “بالغربة والفجيعة” بزوجة كان يكن لها الحب.
أبو محمد يتوجع كثيرًا، فالرجل “في مجتمعاتنا لا يقبل أن يُفرض عليه الطلاق بغير حق، وما حصل لي كاد أن يقتلني، وأحسست بالعجز المطلق والحزن الشديد، خاصة أنني لا استطيع رؤية أولادي سوى مرة في الأسبوع، وفي توقيت حددته المحكمة، ولا يحق لي الاقتراب منهم أبدًا في غير ذلك الموعد، وأنا متعلق جدًا بابنتي الصغيرة وهي متعلقة بي، ولا أعرف ماذا أفعل”. يوغل أبو محمد في انفعالاته ويمجّ نفَسًا عميقًا من سيجارته التي فاحت منها رائحة احتراق قطن الفلتر: “أحيانا أفكر بالعودة إلى سوريا الحبيبة، وهذا أصبح يوم المنى، لكنّي أفكر بأولادي، كيف أتركهم؟ وما هو مصيرهم إن تركتهم؟ وكيف سيصبح حالهم في هذه البلاد؟”. ويتابع: “طلب مني البحث عن سكن جديد، وأنا أقطن الآن مع صديق، ربما سأنتقل إلى مدينة أخرى بعيدًا عن أسرتي التي جهزت لها بيتا بكل مستلزماته، لكن الفرحة لم تدم مع الأسف سوى شهر واحد”.
من الأسباب التي لحظتها السيدة خليل لهذه الظاهرة: سبب عميق بالفكرة الموجودة عند المرأة السورية بأن النساء يملكن حقوقًا مساوية لحقوق الرجال في أوروبا، وتنصح خليل بتأمّل إيقاع الحياة في البلد الجديد، واستنفاد كل الفرص المتوفرة، ومن ثم..”.