روزا ياسين حسن | روائية سوريّة
في نهايات العام 2005 قررنا، نحن كمجموعة من النساء السوريات الناشطات، تأسيس جمعية نسائية جديدة، وأطلقنا عليها اسم: “نساء من أجل الديمقراطية”. كانت الفكرة تتمحور حول ترسيخ دور النساء كعناصر مراقبة لتفعيل الديمقراطية، والتأكيد على المقولة الأساسية: إن لا ديمقراطية حقيقية من دون وجود فاعل للنساء، كما التأكيد على حق المرأة، كإنسانة فاعلة، بالحرية والديمقراطية اللتين حرمت منهما طويلاً في مجتمعاتنا، كون النساء لسن نصف المجتمع فحسب، وإنما النصف الذي يعمل على تنشئة النصف الآخر. باختصار: إن المرأة هي الصانعة الرئيسية للإنسان في المجتمع.
في ذلك الوقت كان التمثيل النسائي في البرلمان السوري يبلغ حوالي 12% أي حوالي 30 امرأة من أصل 250 عضوًا في البرلمان، لكنه مع ذلك ورغم قلّته كان تمثيلاً صوريًا شكليًا وغير حقيقي، كتمثيل معظم البرلمانيين الذين يوافقون فحسب على ما يقرره النظام والسلطة العليا في الدولة، بقيادة الرئيس وحزب البعث الحاكم، ويمليه عليهم.
لكن كان هناك أيضًا العديد من الجمعيات النسائية الفاعلة في سوريا، والتي كانت تعمل، بشقّ النفس، متحاشية الكثير من الخطوط الحمراء، ومتوقعة في أية لحظة أن تتلقى قرار حلّها أو توقيفها عن العمل، الأمر الذي حصل مع الكثير منها: كـ”رابطة النساء السوريات” التي تأسست في العام 1957، وقد حاولت العمل على تعديل القوانين المتعلّقة بالنساء، وتمكين المرأة السورية من منح جنسيتها لأولادها، الأمر الذي لم تنجح فيه أي جمعية حتى اللحظة. كما نشطت “رابطة النساء السوريات” من أجل انضمام سوريا إلى اتفاقية إلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، وقد تم المصادقة على الاتفاقية ولكن مع التحفّظ على خمس مواد منها، الأمر الذي أفرغ الاتفاقية من أهدافها. وقد صدر قرار توقيف الرابطة عن العمل والتضييق على عضواتها الناشطات في العام 2007، تمامًا كما صدر قرار حل جمعية أخرى هي “جمعية المبادرة الاجتماعية” في العام نفسه، بسبب أن “جمعية المبادرة الاجتماعية” نادت بتغيير قوانين الأحوال الشخصية المجحفة بحق المرأة السورية، كقانون الحضانة (حيث نجحت مع الجمعيات النسائية الأخرى بجعل سن الحضانة للبنت حتى 13 وللولد حتى 11 سنة). وكانت قد بدأت بمشروع النضال من أجل تعديل قانون تعدد الزوجات، الأمر الذي فتح عليها بوابات الجحيم خصوصًا من السلطات الدينية، وانتهى الأمر بحلّ الجمعية بعد أن كُفّرت رئيستها وأُهدر دمها على منابر الجوامع. وقد وقفت جماعات حقوق الإنسان ضدّ قرار الحل، وأصدرت ثماني منظمات حقوقية بيانا أدانت فيه القرار، وطالبت بالترخيص لمزيد من الجمعيات انسجامًا مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإعلان الأمم المتحدة لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان، ولكن كل الاحتجاجات ذهبت أدراج الرياح.
أما جمعية “نساء من أجل الديمقراطية” فقد كانت مؤلفة من مجموعة من النساء الناشطات، بعضهن كن يملكن خبرة بالعمل السياسي المعارض بشقّه اليساري “حزب العمل الشيوعي المعارض”، وقضين سنوات طويلة في المعتقلات أيام الديكتاتور الأب “حافظ الأسد”، وقد قررن الانخراط في العمل المدني النسائي مع استحالة إكمال العمل في الحقل السياسي وتداعي الأحزاب المعارضة بعد سنوات طويلة في السجون والمنافي والملاحقات.
لم نفكر في الحقيقة بطلب ترخيص للجمعية، لأن قانون الطوارئ الذي أعلنه حزب البعث العربي الاشتراكي منذ نجح في انقلابه في العام 1962 كان يجعل من فكرة ترخيص الجمعيات حلمًا لا يفكر المرء فيه، وكذلك فإن نمط العضوات اللواتي عملن على تأسيس الجمعية، والماضي السياسي المعارض لمعظمهن، حال دون تجرُّئنا على تقديم ترخيص للجمعية.
لكن لم تمض شهور قليلة على إعلان الجمعية كبيان على الإنترنت، والبدء بالترتيبات الداخلية والخطوات الأولى في العمل، حتى تم استدعاء جميع العضوات المؤسسات للتحقيق معهن في أحد أفرع الأمن الكثيرة والمنتشرة في العاصمة دمشق.
بعد أسابيع طويلة من التحقيق، ومحاولتنا إفهام المحققين بأن الأمر لا يتعلق فقط بالديمقراطية كمفهوم سياسي، الأمر الذي كان يرعبهم، بل يتعلق بالديمقراطية في كافة مفاصل الحياة، ابتداء بالأسرة والمجتمع والعمل وانتهاء بالحياة العامة، أجبرتنا السلطات الأمنية على حلّ الجمعية، وذلك بعد أن فُصلت الكثيرات من العضوات من أعمالهن في الدوائر الرسمية، ومنعت كثيرات منهن من السفر، كما حصل معي، وتمّ التضييق علينا أمنيًا.
وقتذاك دفن حلم عمل الجمعية العلني في مهده، ليتحوّل إلى عمل سري نسائي استمر حتى قيام الثورة السورية العام 2011 وخلالها كذلك!
لكن تجربتنا المؤلمة تلك لم تكن إلا جزءًا من تجارب النساء في سوريا، فالعمل النسائي المدني كان أمرًا أشبه بالعمل في حقل ألغام، والنساء الناشطات اللواتي خضن هذا النوع من العمل كن أشبه بفدائيات! فالسلطات المضادة لم تكن مقتصرة فقط على السلطات السياسية متمثلة بالحكم السياسي الديكتاتوري، بل بالسلطات الاجتماعية والدينية، بشقّها المتحالف مع السلطة، والتي لم تكن تسمح بتجاوزات تقوّض من سيطرتها على المجتمع. وعلى الرغم من محاولات النظام السيطرة على مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني، عبر إنشاء جمعيات متعلّقة به تحتكر العمل النسائي لصالحها، إلا أن توق النساء المستقلات عن المؤسسات الرسمية ظل كبيرًا للعمل خارج سرب النظام.
الاتحاد العام النسائي كان خير مثال على احتكار العمل المدني منذ تأسيسه في العام 1967، فقد بقي تابعًا بكليته للنظام وعمل على تأطير العمل النسائي بما يتناسب مع قرارات السلطة ومنهجها، ثم تاليًا الجمعية التي أنشأتها زوجة بشار الأسد، أسماء الأسد، باسم “الهيئة السورية لشؤون الأسرة” والتي حاولت أيضًا أن تؤطر العمل النسائي وتختزله داخلها فحسب، وبعض الأمثلة الأخرى التي ارتأت علاقات طيبة مع النظام لتسيير عملها وتسهيله.
إلا أن الفدائيات من الناشطات النسويات بقين مصرّات على العمل خارج الأطر المرسومة، وكان عليهن دفع الأثمان الغالية قبل اندلاع الثورة وخلالها وحتى اليوم الذي تحوّلت فيه إلى حرب.
ولكن لهذا حكايات أخرى!