وائل ديب.
صباحًا…
تشرق الشمس متأخرة نسبيًا هنا بالنسبة إلى وطني الأم سوريا، أحرص دائمًا منذ وصولي على مهاتفة أمي في ساعات الصباح الأولى، حيث الكهرباء وخدمة الإنترنت لا تزال متاحة في بهذه الأوقات في بلدي الغارق بالعتمة من كل صوب، تخبرني عن مجريات الحرب حولها، وتروح تسرد أسماء الوفيات الجدد، وشكل الوفاة، دون أن تنسى إحصاء اللاجئين الجدد الذين دخلوا مدينتنا قادمين من أقاصي الريف المدمر، والباحثين عن شكل أفضل للموت في جنبات المدينة، تؤكد أمي مرارًا أنها بخير وأنه ليس في قلبها من حلم إلا أن تنتهي الحرب، وأعود سريعا إليها، لكنها لا تنسى أن تسألني عن نسبة اندماجي في وطني الجديد، هل هي في تحسن ملحوظ؟
أصمت.. فلست أنا من يستطيع الإجابة، تكمل أمي: “بادئ الأمر ستبدو الحياة جميلة في الوطن الجديد، أمنة إلا من هبوب الذكريات، ثم شيئًا فشيئًا يعتاد الناس حياتهم الجديدة، يبحثون عن معنى بقدر المسافة بين ألم الماضي وآفاق المستقبل، وبقدر تسامح الضيف ودأب المضيف تصبح الحياة قابلة للعيش، وعندما تكبر يا ولدي ويحيطك المجهول ستبحث عن تراب تعرفه تمامًا يضم أشلاءك”، معرجة على أساليب لا تنتهي من أشكال الاندماج التي يتبعها اللاجئون من الريف إلى المدينة، رغم الهوية الواحدة التي يتقاسمونها مع أبناء جلدتهم.
أقول في سري: “الاندماج إذن، هو قدرة الضيف على التأقلم مصحوبة بكرم المضيف، دون النظر إلى عقارب الساعة التي تحدّ من كرم الضيافة، ولا تعتبر الهوية الواحدة شرطًا من شروط الاندماج الناجح”.
ظهرًا..
أصل مدرستي التي يحاول فيها المدرسون جاهدين إطلاعنا على ما في ذاوتنا من مهارات، يعيدون هنا منذ أسابيع قليلة على مسامعنا طرق النجاح في الوطن الجديد، وسبل إيجاد العمل وطرق التوصل إليه، وطريقة كتابة السيرة الذاتية. يدور الحديث الآن عن العمل في الوطن، على الجميع أن يذكر مهنته والخبرات العملية التي اكتسبها، يصر المعلم على أنه ليس من الضروري أن يجد كل منا عملاً باختصاصه، أجلس منهمكا في مطالعة الصحف اليومية، أو قراءة آخر التعليقات في الفضاء الأزرق، هاربًا حتى من الإجابات، يوقظني صوت المعلم من ذهولي، مناديًا “لماذا تغلق يديك هكذا؟ فتبدو وكأنك منغلق على نفسك غير منفتح على الآخر الذي يجلس مواجهتك”، ويكمل: “الاندماج يقتضي إشارات لا تنتهي من رسائل الجسد التي يرسلها الشخص إلى محدثه ليبدو مندمجًا في الحديث، وكذلك هو الاندماج في الوطن الجديد، يتطلب ثقة مطلقة في النفس، وأملاً كبيرًا في القدرة على بناء الغد هنا، كن مبتسما واثقًا، ركز عينيك في محدثك”.
كيف أفهم معلمي بلغتي التي لا تزال ركيكة بعض الشيء، أن هذا الاندماج لا يولد مصادفة، وأنه ليس شكلاً من أشكال القطيعة مع التاريخ، تاريخي الشخصي.
يقترح المعلم جولة في أسواق المدينة القديمة، يتحدث بحماس عن الأماكن واللقى الأثرية، ثم يسهب شارحًا حول ضرورة الاندماج، يأخذني المكان إلى حارات دمشق القديمة الضاربة عميقًا في جذور التاريخ، أقارن البيوت بالبيوت والجدران بالجدران.
أقول في سري: “الحنين هو عدو الاندماج الأول، والمقارنة سلاحه، هو السكين التي تهوي على الجرح فتعيد فتحه إلى نقطة البداية، هو الريح التي تعوي وتعوي ولا تتوقف”.
مساءً..
في زيارة سريعة إلى صديقي السوري الذي مضى على وجوده هنا ما يقارب الربع قرن، يحدثني عن لعبة كبيرة تسمى الاندماج، ظاهرها عمل وشهادة لغة، وباطنها انعزال وانزواء، يصر على أنه لا يستطيع البقاء هنا إلى الأبد، وأنه لا يشعر بانتماء حقيقي، فبقاؤه انتظار للأفضل.
أقول في سري: “ليس الوقت هو العامل الحاسم في صنع الاندماج، وكذلك ليس نوع الأوراق التي تحملها، الاندماج هو الإطلال الحقيقي على ثقافة الآخر، والاستعداد الحقيقي لتشارك الهوية والثقافة، هو البحث المضني عن كينونة الإنسان في الزمن دون الجغرافيا، وهو الابتعاد عن الإفراط في تحويل الحاضر إلى ماض”.
ليلاً..
أدير المذياع على نشرات الأخبار الليلية التي تبث باللغة الألمانية، أحاول جاهدًا فهم ما يحدث، قدر ما استطعت، يتحدث المذيع هنا عن خطط الحكومة في تعليم الآلاف من اللاجئين اللغة، وإيجاد آلاف فرص العمل لهم، محطة أخرى تذيع نبأ اعتداء عشرات اللاجئين على أفراد من رجال الشرطة في أحد مراكز الاستقبال الأولي، الاندماج واللاجئون هو حديث الجميع هنا، كأنه مفهوم ضبابي كالنشيد، يثير فيك من الحماسة، أكثر ما يثير من التفكير.
أقول في سري: “الاندماج هو نظرة القلب إلى القلب، واعتراف الضيف باختلاف مضيفه، وهو تثبيت النظر إلى الإمام، والتخلي الطوعي عن سادية الحاضر والماضي”.