ربما لم يتسنَّ بعد للكثيرين مشاهدة فيلم “ذاكرة باللون الخاكي” للمخرج السوري الفوز طنجور، والذي حاز مؤخراً على عدة جوائز. وبغض النظر عما حققه من نجاح، يمكن القول أن هذا الفيلم تأريخٌ لجانبٍ كبيرٍ من حياة أي سوريّ. حيث لا تباكي في الفيلم ولا حسرات ولا ميلودراما، إنها القصص كما هي بواقعيتها البسيطة والملونة.
حين التقيت بالمخرج أخبرته أنني كلما حاولت أن أشرح لصديقٍ ألماني عن سوريا أنهكني عجز الكلمات، فهناك دوماً شيءٌ مُفتقَد في الوصف، ولن يستطيع الغربيّ يوماً أن يفهم ما نختزله نحن عادةً ببساطة بالقول “الخصوصية السورية”، لكن مع هذا الفيلم، صار باستطاعتي أن أصمت برضىً، فهو يقول تقريباً كل شيء.
الفوز طنجور حدثنا قليلاً عن الفيلم وعن نفسه، في هذا الحوار:
قصيدتكَ “وطن أخير بورقة يانصيب جديدة” تَرد في أجزاء عديدة من الفيلم، كما أنك كتبت السيناريو، فهل تعتبر نفسك كاتباً، شاعراً أم مخرج؟
لا طبعاً، لست كاتباً ولا شاعراً، أنا شخص يحب الصور، أهرب إليها، اعتدت في صغري أن أذهب إلى السينما وكانت معظم الأفلام تجارية آنذاك، فأدركت أني أحب السينما، ولكن ليست هذه السينما ولا هذه الأفلام. كان الملجأ الوحيد هو الروايات والقصص، فأصبحت قارئاً نهماً أرى في الروايات الصور التي في رأسي مكتوبةً على الورق. وبعدها تأكدت أن ما أريد مشاركته مع الناس هو الصور، وعرفت أن السينما هي شغفي، فيها أستطيع اختصار الكثير من القصائد أو الكتب في مشهد واحد.
ينقل الفيلم عن شخصياته إحساساً هائلاً بالخسارات، لكنّ الصور في المقابل شديدة الغنى والتلون، لماذا؟
كانت لدي رغبة شديدة في صناعة فيلم سينمائي حقيقي باقٍ ضد الزمن، وبالنسبة لي شكل العمل الفني هو القادر على حماية المضمون ولذلك فهو الأهم في كثير من الأحيان. ففي السينما الكثير من قصص الحب ولكننا نحب فيلما أكثر من الآخر لأن الشكل الذي قدم به أهم. بنفس الوقت لا أريد أن يكون الجمهور نخبوياً، لذا ضمّنت الفيلم كل ما أريد قوله فنتج هذا الكم من الصور التي تعبر عن الحكاية من وجهة نظري الخاصة جداً.
بالتأكيد في الفيلم من البؤس والحسرة ما يحفّز السؤال: ما الذي حدث، ولماذا؟ إنه تحفيز على طرح الأسئلة وإعمال العقل وليس لاستجداء عواطف مجانية، وإلا كنت سأكتفي باستعراض شخصيات تحكي قصصها وتبكي.
تقول إحدى شخصيات الفيلم إن الدم السوري مكوّن من كرية حمراء، كرية بيضاء، وكرية خاكي، فكيف الهرب من هكذا حصار؟
هذا التساؤل وارد في الفيلم، إنه دعوة للتفكير بشيء مختلف عن الذي حدث. أعتقد أن البوح والكلام طريقة للخلاص، ربما يجب أن نضع حكايانا على طاولة ونناقشها، فالسوريون بحاجة لأن يتكلموا ويسمعوا، لدينا مشاكل اجتماعية هائلة لأننا لا نسمع بعضنا جيداً. لا يوجد بيننا شيءٌ جامعٌ في الحقيقة، ونستنتج أننا كنا نعيش في وهم، والوطن أو الأوطان -لأنه حتماً لم يكن يوجد وطن واحد لنا- في عقل كلٍ منا وطن، يشبه الشيء الذي يحبه هو. لا يوجد وطنين متشابهين في قلب كل سوري.
هل تعتقد أنك استطعت إيصال رؤيتك للتاريخ القريب في سوريا إلى الجمهور الغربي؟
عُرِض الفيلم في كندا واليابان وأوروبا، وفي كل مرة كان الجمهور يقول إنه لم يكن يعرف أن سوريا كانت تعيش هذا القمع والقهر في الثمانينيات أو التسعينيات، وأنهم لم يروا البلد بهذه الطريقة من قبل. وأعتقد أن السبب هو الاهتمام بكل تفصيل، حتى لامس الإنسان في كل شخصٍ من الجمهور غربياً كان أم عربياً، حتى موسيقا كنان العظمة “صباحٌ حزينٌ كل صباح” كانت ترنيماً من وحي المكان.. من داخل الخراب.
“أنا إذا نسيت بكون بلا ضمير”.. هكذا قال خالد في الفيلم، وغيره كثيرون مسكونون بالقهر، كيف الخلاص من هذا الحمل؟ هل بالبوح كما أشرت منذ قليل أم بالنسيان فعلاً والتطلع إلى الأمام فقط؟
لا يجب أن ننسى، نحن نعيش في قلب القصص حتى الآن، كلنا لدينا أهل وأصدقاء في سوريا ونتواصل دائماً معهم. كيف للإنسان أن ينسى الظلم الذي وقع عليه إذا لم تتحقق العدالة؟ في لبنان حدثت الحرب وتوقفت نظرياً فقط، بمعنى أنهم أوقفوا إطلاق النار على بعضهم، لكن عملياً لم تنتهِ هذه الحرب، نفس أمراء الحرب ما زالوا يمسكون بالبلد، ولم تتحقق أية عدالة ولم تجر أية محاكمات، وبالتالي لن ينسى أحد ما حدث.
الناس تنتظر أن تشهد عدالة حقيقية، تعيد لهم كرامتهم التي هدرت، عندها يمكن أن ينسوا ومن الممكن فيما بعد حتى أن يسامحوا، وأنا أتبنى هذه الجملة التي قالها خالد، أنا لا أستطيع أن أنسى. في داخلنا غضبٌ لم يتفرغ في أي مكان، لذلك نحس أحياناً أنه لدينا غضب حتى على أنفسنا وعلى أقربائنا. لدينا غضب لأن الذي حدث ليس قليلاً أبداً.
لاحظت أن بين شخصيات فيلمك بعض الشبه فكرياً وثقافياً ونضالياً؟ وربما لا يمثلون شريحةً واسعةً في المجتمع، ولا هم حتى ضحايا القصف والدمار، فما الهدف؟
منذ فترة أخرجت فيلماً اسمه “دمشق سيمفونية المدينة”، فيه شخصية سائق التاكسي، وبائع الغاز، ومربي الحمام، وفيه المثقف، ومذيع الاخبار،بمعنى أنه كان خليطاً من مختلف الشرائح التي تعيش في تلك المدينة. وفي فيلم (حجر أسود) أيضاً محاكاة لجميع شرائح المجتمع.
أما فيما يخص “ذاكرة باللون الخاكي”، لم يكن همّي أن أجري إحصائية، ولم أرد أن أحصل على شهادات حية لأشخاصٍ قصفت بيوتهم، أو هجّروا من بلداتهم وهذا سهل. كان همّي الحقيقي في هذا الفيلم أن أروي حكاية هذا اللون، وعلاقتي الشخصية به، ومايمثله في مخيلتي من البلد الذي تربيت فيه.
ماذا قدم لك المنفى؟ وهل ساعدك على إخراج فيلمك إلى الضوء؟
استغرق إنجاز الفيلم حوالي ثلاث سنوات ونصف مابين كتابته والتغييرات التي أجريتها عليه حتى مرحلة عرضه ، ولاشك أن تجربة المنفى أغنته من نواح عديدة، ولكنني حقيقةً لا أستطيع الجزم بأنه سيكون بنفس الأهمية لو أخرجته وأنا داخل سوريا. فأنا كسينمائي، أحب أن أفعل الأشياء التي تشبهني بشكل شخصي، وفي الأماكن التي آلفها والتي أعيش فيها، وإخراجي لفيلم ما في هذه الظروف والتي تناسبني تماماً، هو تجربة بحد ذاتها لمحاولة إنشاء علاقة بيني وبين الأماكن والأشياء التي تحيط بي.
من ناحية أخرى ربما لو أتيحت لي فرصة عمل هذا الفيلم في سوريا، والتكلم مع الناس في الداخل لما كان هذا شكل الذاكرة التي سيقدمونها باللون الخاكي.
قد يتساءل المشاهد بعد كل هذا البوح الشعري في الفيلم.. هل كان السكريبت معداً مسبقاً لشخصيات الفيلم؟
لا بالتأكيد.. السكريبت موجود لكل شيء ما عدا حوار الشخصيات. لقد حضّرت كل المشاهد على الورق مع التفاصيل والأماكن. ولكن عند التصوير تصبح هذه الأشياء كالماكيت ويتغير كل شيء، ولذلك كل الجمل التي قالتها الشخصيات في هذا الفيلم قيلت لمرة واحدة فقط، ولم يكن هناك إعادة.
كل شخص في الفيلم أعرفه معرفة شخصية وله أثرٌ في ذاكرتي وشخصيتي، وقصتي المختلفة مع كل واحد منهم فيها من الغرابة والاستعارة والرمز مايكفي لأن تكون شعراً وسرداً روائياً. قلت لهم يوماً: نريد أن نعمل فيلماً عن هذه الذاكرة، ماذا سنحكي؟ لا أعرف، نريد أن نبحث معاً، وسنرى ما سوف نجد..
قال ابراهيم صموئيل في بداية الفيلم، إنه لن يترك الشام فهو لن يكون هو ذاته في أي بلد آخر. لكنه غادر وأنت غادرت، فهل تغيرت بعد الخروج، وهل ستكون نفسك إن عدت يوماً؟
مؤكد أنني لست أنا في أي بلد آخر غير سوريا. فنحن نتقمص شخصيةً أخرى.. نفسياً وعاطفياً وثقافياً باختلاف الأماكن، وعندما نتقن لغةً أخرى فإن رؤيتنا للأشياء وتعبيرنا عنها يختلف. وكما ورد في الفيلم، هناك تفاصيل خاصة بالمكان/بدمشق مثل: صباح الخيرومسا الخير وشجرة التوت في الحارة.. هذه التفاصيل لا تصنع وطناً لكنها هي روح المكان التي تتشكل بينها وبين روح الشخص كيمياء عجائبية.
أنا الآن لست كما كنت في بيروت أو سوريا. ولا أقول ذلك بحسرة، إنه “أنا” الحقيقي هنا وهناك، والذي هنا هو لاجئ يحاول التكيف للحاق بشيء ما. لا أعرف كيف ستكون علاقتي مع الشام إن عدت إليها، سأكتشف ذلك يوماً، وسنكتشف ذلك كلنا يوماً ما.
أنت بصدد إخراج فيلم روائي حالياً، فما حكايته؟
العنوان الحالي للفيلم “بارودة خشب”، يحكي قصة عائلة سورية، تريد أن تعود لتعيش مع بعضها بعد سنوات الفراق، وتتمكن بعد كل شيء من إيجاد لغة مشتركة. بدأت التحضيرات لهذا الفيلم منذ عام 2013 ، لكنه مازال قيد الكتابة، لأنني أغير بكتابة النص حسب المكان الذي أكون فيه، فمثلاً وبعد مجيئي إلى النمسا في 2014 عدت لكتابته من جديد، وهكذا. سيكون هذا فيلمي الروائي الأول وأنا متحمس جداً لهذه التجربة وممتن لدعم أصدقائي ومن حولي.
حوار سعاد عباس
الجوائز التي حازها الفيلم:
جائزة أفضل مخرج لفيلم وثائقي طويل في ختام الدورة السابعة من مهرجان مالمو للسينما العربية.
جائزة “ريشة كرامة” لأفضل فيلم وثائقي في عمان.
جائزة “The Grand Mayor’s Prize” في مهرجان ياماغاتا العالمي للسينما التسجيلية في اليابان،
كما رشح لجوائز أخرى كثيرة.
برومو الفيلم
اقرأ أيضاً