“وأخيرًا سأبدأ معاملة لم الشمل.”
كان هذا أوّل ما لمع في خاطري لحظة تصايحت البنات في الغرفة: “قومي قومي.. إجتك الإقامة”. عام كامل وأنا بانتظار هذه الورقة، أمضيته وأنا أحصي القذائف على حلب، أتلمس صور الأبنية المتهدمة كأنّي أتلمّس رحمي، أحسّ بارتدادات القذائف كركلات طفلي فيه، بل وأشعر بمزيج أصوات الناس والانهيار: نبضات قلبي، وقلبه.
كيف لا، وابني الوحيد عالق هناك؟
عام كامل، وأنا أحتاج لإغلاق أجفاني بيدي لأستطيع النوم، أخاف أي خبر جديد عن حلب، تستعبدني (الإشعارات) و(الرسائل) فانتظارها مرهق، ومجيؤها موجع.
أتذكرُ كل موجة وخطوة في الطريق إلى هذا “الأمان”، وأنا أجرّ خلفي حبلين طويلين ينتهيان في حلب. حبل بيد زوجي، وحبل بيد طفلي الوحيد، ثلاثة غرقى على ضفّتين من خراب وأمل، وكل منهم يظنّ أن الآخرَين هما طوق النجاة.
أحاول ألّا أتذكر لحظة انقطاع أحدهما، لحظة اختُصر كل القهر وكل الرعب، بجملة واحدة: “مات بغارة البارحة”، تلك اللحظة التي سيطرت فيها أمومتي على أي شعور آخر، فتجاهلت الخبر كأنه لم يكن، وأجبت: “وابني؟”.. تنفستُ الجواب: “الله ستره..”
مات زوجي وأنا في فيينا، هل تقبل مدينة كفيينا خبر الموت بغارة جوية؟ لا شيء يشبه التناقض بين ما أراه وما أفكر فيه في تلك المدينة، إلا ذات التناقض الذي كان يغمرني حين أتحدث إلى طفلي ذو العشر سنوات العالق في جحيم حلب، وبين ما أسمعه عن مدينتي المنكوبة.
غمرني العجز واليأس، فقد شريك حياتي، وبات طفلي الوحيد، مشردًا بين ما تبقى من بيوت الجيران، في مدينة تنجب عشرات الموتى كل يوم، تنقطع الأخبار عنها بالأيام، وينهشها الجوع والحصار.
هل أرجع لأنقذه؟
كيف تستطيع أم إنقاذ وحيدها من غارة جويّة إلا بأخذه لمكان لا غارة فيه؟ هل أتابع طريقي حيث لا أمل له ولا لي إلا بالمتابعة؟
حسمت أمري، ودخلت ألمانيا بحبلي الوحيد المربوط إلى طوق نجاتي البعيد.
وبدأ الانتظار الممض..
عام كامل وأنا أعيش في شاشة هاتفي المحمول، وصندوق البريد، تتدفق الأوجاع من الأول والخيبات من الثاني، أراقب تحوّلي لكائن مفرط القسوة والأنانية، تجاهلي البليد لكل أسماء الضحايا، لا يعنيني سوى اسم ابني الآن..لا شيء على الإطلاق.
“قومي قومي إجتك الإقامة”
كان صوت البنات في السكن المشترك أقرب للزغاريد، فقصّتي صارت الأشهر في الطابق كله، وصارت لحظات حديثي مع ابني عبر “السكايب” متعةً للكثيرات منهن، يشاركنني شوقي ومحبتي، لكنني أبقيتهن بعيدات عن حبل نجاتي.. فهذا لي وحدي.
كانت أصابعي ترتجف وأنا أفتح الرسالة، فأنا لا أعرف الفحوى بعد، وإن كان اسم الجهة المرسلة لا يترك مجالاً للخطأ، إلا أن الخيبات التي احترف صندوق البريد زرعها في عينيّ، لم تترك للثقة مكانًا..
أجل إنها قرار الموافقة على الإقامة، تخاطفت أيدي الفتيات القرار، وتناقلنه كصحن الحناء في عرس ريفي، لكن انطفاءً مريبًا كان يطفو على كل عينٍ تمعنت في القرار..\
أخيرًا، استجمعت احداهن شجاعتها وقالت لي: “القرار حماية مو لجوء، سنة وحدة”.
شعرتُ بالحبل ينزلق من يدي ليلتفّ على عنقي. عام واحد يعني أن لا فرصة للم الشمل قبل ثلاثة أعوام.. ثلاثة أعوام قد تجعل من ابني مقاتلاً.. إن لم يكن قتيلاً. انهرت على أقرب كرسيّ وتحجّرتُ تمامًا، لم أكن قادرة على البكاء ولا الصراخ ولا حتى التنفس، وبدأت الأصوات تتداخل في رأسي: “طولي بالك… بكرا بتقدمي اعتراض.. لا تخافي.. الله كريم ..”
لم أنم ليلتها.. ومع خيوط الشمس الأولى انطلقت للبحث عن محامٍ لتقديم الاعتراض.
وبدأت رحلة العذاب.
أربعة أسابيع وأنا تائهة على أبواب الدوائر الحكومية، حفظ الموظفون وجهي وقصتي، بل إن بعضهم صار يسألني عن أخبار ابني، معتذرًا أحيانًا لطول الإجراءات وتعقيدها، طالبًا مني التحليّ بالصبر.
في آخر أيام الأسبوع الرابع تحديدًا. غمرني شعور مرعب بالهلع، تجنبت الهاتف هربًا من الأخبار، تجنبته ساعة كاملة، ولكنّ الحبل المربوط بيدي كان يشدّني بحزم، لم أقاوم أكثر، وعدت لأقلّب الأخبار فيه، فبدأ الاختناق: قصف شديد على حيّنا في حلب، ولا تفاصيل.
***
في صباح اليوم التالي، كنت واقفة بملابس نومي على باب أقرب مكتبة أنتظر أن يبدأ العمل، جاء صاحبها مبتسمًا بلطف.
-” صباح الخير”
– “أريد أن أطبع صورةً”
-“حسنًا”
وهو ممتعض من طريقة كلامي الوقحة.. حتى رأى الصورة التي أريد طباعتها، فانقطع صوت تنفسه.
اقتحمت مكتب مدير دائرة الأجانب، فكاد يصرخ مستنكرًا، وربما لم يمنعه من استدعاء الحرس سوى أنه يعرف قصتي جيدًا، ألقيت الصورة على مكتبه. وقلت:
“كنتُ بحاجةٍ لثلاث سنوات لأحضن طفلي، لم أحصل إلا على سنة واحدة، هل يسمح قانونكم لي بإحضار ما تبقى منه؟”.