عبد الله حسن
منذ اندلاع الثورة في سوريا منتصف شهر آذار مارس ٢٠١١، ودخولها بعد ذلك مرحلة النزاع المسلح، وماتلاها من أزمة اللاجئين، واكتظاظهم في المعابر الحدودية على عتبات الدول المجاورة، انتهجت الحكومة التركية بحقهم تدابير لاقت استحساناً ملحوظاً في بداية الأمر، بعد أن اعتبرتهم ”ضيوفاً” على أرضها، عوضاً عن منحهم حق اللجوء، مثلما فعلت دول كثيرة حول العالم، أبرزها ألمانيا (مايقارب نصف مليون لاجئ سوري).
بعبارةٍ أخرى، تعاطت الحكومة التركية مع السوريين الفارين من أتون الحرب المشتعلة في بلادهم على مبدأ “تدبّر أمر نفسك بنفسك“؛ وللوهلة الأولى قد يبدو هذا المبدأ ذا طابع تفاؤلي إلى حد كبير، خصوصاً في مراحل تطبيقه الأولى، قبيل تخطي أعداد الضيوف آنذاك حاجز المليون إنسان، عائلاتٍ وأفراداً، كان بإمكانهم جميعا التنقّل بأريحية مطلقة بين الولايات التركية لأغراض العمل، السياحة والاستجمام.. إلخ، لهم ما للمواطن التركي تماماً، اللهم إلا استملاك الأراضي والعقارات.
بعد ذلك، عمدت الحكومة إلى انتهاج سياسة جديدة وقبيحة إن صحت التسمية، قضت بموجبها على مساحة الحرية تلك التي كانت قد منحتها للضيوف، خصوصاً في الولايات المكتظة بهم في جنوب وجنوب شرق البلاد، تحديداً في أورفا وغازي عينتاب الحدوديتين مع سوريا.
عشرات المدنيين قضوا نحبهم برصاص حرس الحدود التركي، أثناء محاولات العبور هرباً من بطش أحد الأطراف بهم، مقاطع فيديو، وشهادات ناجين، وصورٌ كثيرة أثبتت ذلك. محاولة عبور سيدة بمفردها الآن تصل تكلفتها حتى ٣٠٠٠ دولار، نعم .. ثلاثة آلاف دولار أمريكي لقاء رغبتك الملحّة برؤية والدة، أو أخت، أو زوجة، أو حبيبة في تركيا، قادمةٍ من سوريا. لك أن تتخيل ذلك.
قضت –لا أدري إن كنت سأسميها أحكاماً أو قوانين– التشريعات الجديدة في تركيا بمنع السوريين بتاتاً من التنقل عبر الولايات من واحدة إلى أخرى دون الحصول على بطاقة الحماية المؤقتة «كملك»، وهي بطاقة أشبه ببطاقة التعريف الشخصية، إضافةً إلى إذن بالسفر من “الوالي” لم أره في حياتي، ولا أود ذلك مطلقاً، لا بل يراودني دائماً أن لديه حجةً جاهزةً لمنعي من مغادرة عينتاب حيث أسكن. ولا بد أنه قصير، سمين، أصلع، أسمر، لا علاقة له أبداً بمولانا جلال الدين الرومي.
بعبارةٍ أخرى أيضاً، حتّمت تلك التشريعات على الضيوف السوريين – كما تسميهم الحكومة– أن يتم حصرهم في مناطق بعينها، ممنوعين من مغادرتها، دون مبررات، وكأننا في مدرسة ابتدائية، كأن أود مثلاً رؤية السيدات في أزمير، لغرض النظر إلى ماهو جميل لبعض الوقت على الأقل، قبيل الموت هنا في بلاد لا يجمعني بها إلا المقام الموسيقي لأذان الصلاة التي لم أؤدّها.
على أية حال، ما يجري في غازي عينتاب مؤخراً عصيٌّ على الفهم تماماً، قد يوقفك الشرطي أمام مقهى ليسألك: هل لديك عمل هنا في تركيا؟ هل تحب بشار الأسد؟ «ياخي جاي إشرب قهوة وانقلع».
ناهيك عن كوني ضيفاً (بالصرماية). يُستضاف المرء هنا رغماً عن أنفه في مدينة يحرم عليه تجاوز حدودها إلا بفتوى.
نسيت أن أخبرك أيضاً: أنك غير قادر على الحصول على بطاقة الحماية المؤقتة بشكل مشروع، فالقائمون على الموضوع لاينفكّون يؤجّلونك إلى يوم يفر المرء من ملامح وجهه، ما يوجب عليك أن تدفع ما يقارب ٤٠٠ دولار أمريكي للحصول على حق الضيافة هذا، أو تسجيل مولودك في المدينة مثلاً، وبالتالي لايزال الحديث عن زيارتي لأزمير أمراً مبكراً.
ماهو أبعد من ذلك و«أدق رقبة» كما يقال، وقد يثير في نفسك هواجس الجنون أيضاً، هو قضية كيف أن البطاقة نفسها، بطاقة الحماية المؤقتة، تُعطى بالمجان للسوريين في المدن الشمالية والغربية، والتي لا تستطيع أن تزورها للحصول على البطاقة إلا ببطاقة . أيّ لعنة هذه التي تصيب جهة الشرق على الدوام؟!
أضف إلى ذلك، حملات تفتيش للمارة في أحد الأسواق بشكل يومي، حملات اعتقال، تهجير، تكديس في المخيمات، وأمور أخرى كثيرة تتناسب وحجم مأساتنا، علماً أنه لم يشارك أي سوري في محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا على حد علمي.
بالحديث عن مأساتنا، ما يجعل من كل ما سبق أكثر قبحاً، هو أن السماسرة المنتفعين من عمليات استخراج بطاقات جديدة أو إذن العمل، أو حتى السمسرة في قضايا أخرى كاستئجار المنازل، وشراء السيارات هم سوريون أصلاً، يتقاسمون الأموال مع الموظفين الأتراك، لقاء تسجيل مولود أو منح أحدهم حق العيش بحرية (لن نتحدث عن الكرامة هنا)، وذلك عبر التقاط صور شخصية له، وكتابة اسمه على ورقة مستطيلة، ومنحه رقماً جديداً، يحسب له في هذا العالم، مضافاً إلى مجموع الأرقام التي يحملها في جيبه أينما حل.
عبد الله حسن. كاتب سوري مقيم في تركيا
اقرأ أيضاً للكاتب:
خولة: مؤنثٌ عربيّ بمعنى الظّبية التي لا تَقوى على المشي
عن بطاقة الحماية المؤقتة في تركيا