مها حسن *
كلما دخلت إلى مكتبة شعرت بالهلع أمام كثرة العناوين والكتب المصفوفة بازدحام، وقلت لنفسي: يا إلهي، ما أهمية ما أكتبه ضمن هذا الزحام؟
يتفاقم السؤال عن جدوى الكتابة، في ظل إغراق السوق بالكتب مع موجات الكتابة الطارئة، واستسهال النشر بسبب انفتاح فرص ومنابر عديدة، لأسباب قد لا تكون إبداعية من الأصل، كنوع من (التجييش) الإعلامي المُسيّس لخدمة قضايا وأجندات، أو لامتلاك بعض الجهات موارد مالية تمكنها من استقطاب أشخاص يرغبون بالظهور، أكثر مما يكون لديهم هاجس إبداعي حقيقي.
وعلى العكس من موقف الروائي إمبرتو إيكو المعترض على تدفق أساليب وفرص التعبير لأشخاص لا يحق لهم هذا، قائلاً بأن المواقع الاجتماعية (تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء)، أجد أنه من حق أي شخص أن يكتب وأن يعبر وأنا ضد احتكار الكتابة، ولكن هذا في الوقت ذاته، يغرق السوق الأدبي والفكري بمنتجات خالية من القيمة، وربما بلغة السوق ذاتها تطرد العملة الرديئة تلك الجيدة.
ليس هذا ما أود التعبير عنه هنا: إشكالية الكتابة الكميّة وصعوبة التمييز ضمن هذا الكم على النوع، إنما رغبت أن أقدم تجربتي الصغيرة، حول كيفية النجاة من سوق يعرض منتجات مدهشة التنوع والكثرة، ليكون أحدنا محافظاً على منتَجه، أي نصّه الإبداعي.
سأضرب مثالاً حول مواقع التواصل الاجتماعي؛ تصل أغلبنا الكثير من الرسائل اليومية عبر الفيسبوك والتويتر وغيرهما. وغالباً نقوم بإهمال هذه الرسائل، إلاّ البعض منها. وهنا كما يقول المثل “حطّنا الجمّال”. لماذا نستثني (هذا البعض) من قاعدة الإهمال؟ وكيف يمكن لرسالة تصل من بين العشرات، أن تلفت نظر أحدنا ليهتم بها ويرد عليها.
الوقوع في الكليشيه
السمة المشتركة لأغلب هذه الرسائل هي التشابه. كأن الذين يكتبونها يجلسون في غرفة واحدة، أو صف واحد كتابة خالية من التفرد. وهذا القانون ذاته ينطبق على أغلب الصادرات التي نخاف من كميتها، وهي تحتل رفوف المكاتب تقلّب الأوراق، ولا تشعر بالجديد. كأنك قرأت هذا الكتاب من قبل أو هذه الرواية. حيث تكاد تكون الصفحات الكثيرة مجرد نسخ ولصق لفكرة ما أو كتابة ما، تسعى فقط هذه المطبوعات الجديدة إلى التنويع اللغوي ومحاولة ابتكار صور جديدة للتعبير عن الفكرة ذاتها.
غياب الاختلاف أو فقدان الفردية في التعبير، هو أحد أسباب انتشار التكرار والكلام النمطي المتشابه الذي بتنا نعبر عنه شفوياً بوصفه: بلابلابلا… أي مجرد لغو.
وحين يجتهد البعض من هواة الكليشيهات، لابتداع جمل مختلفة، يقعون في مطب ( الفزلكة) أو التقعير اللغوي الخالي من المعنى. كأن يكتب أحدهم: أناملك التي تخط الضوء وتخلق الإبداع. تبدو العبارة لصاحبها متميزة، بينما أجدها متكّلفة وغير مؤثرة. وهذا طبعاً يتوقف على الذائقة، التي تختلف من متلقٍ لآخر.
تكتب لي إحداهن: يومك يجعل من نهاري جميلاً حين أقرأك. لتجبرني على الرد، فهي لا تتكلّف ولا تبتذل الكلمات: بسيطة وواضحة ولا تحتمل التأويل.
الرسالة التي تصل
هذه هي الكتابة التي تصل تماماً كالرسائل على مواقع التواصل، تستطيع الكتابة الإبداعية التسرب من بين عشرات المؤلفات، لتحتل مكانها لا على رفوف المكتبات، بل في غرفة القارئ، قرب سريره، في ركنه المفضّل للاستمتاع بالقراءة واكتشاف العالم.
هكذا رحتُ أنتبه، وأنا أفصل بين رسائل كثيرة لا تلفت اهتمامي، وبين رسائل قليلة لا تخفي تميزها في ركام رسائل الآخرين.
هذا التميز لا يحتاج إلى التقعير اللغوي ونحت الصور ونبش كتابات الآخرين للتصرّف بجمل مشهورة وعبارات رائجة، ليصل أحدنا إلى (عقل) الآخر أي القارئ، كل ما تحتاجه أن تكون أنت واضحاً بسيطاً ومختلفاً.
الاختلاف هو الأساس. الاختلاف بامتلاك لغتك أنت، بصمتك مهما كانت هذه البصمة بسيطة، وكنت تخشى من كونها قليلة الأهمية، فهي تفعل العكس، تصل بصدقها وبراءتها.
وهذا ينطبق على الإبداع. الاختلاف هو الإبداع. ماذا يهم العالم أن يفيق على ديستويفسكي جديد، أو على كافكا جديد، أو محمود درويش جديد، أو حتى على أحلام مستغانمي بنسخة جديدة؟
أن تكون مؤثراً، يعني أن تُطلق اسمك أنت، لا أن تكون ظلاً أو تابعاً لاسم سبق واشتغل ليصنع مكانه.
كتابة جديدة
ككاتبة سبق لي أن نشرت عدة روايات، وأكتب بين الحين والآخر في الصحافة العربية، تصلني، كغيري من الكتّاب دون شك، العديد من الأسئلة والاستفسارات حول : كيف نكتب؟ كيف ننهي عملاً عالقاً منذ وقت ولا نستطيع التقدم به؟ كيف نرتب صفحات طويلة لتتحول إلى نص إبداعي؟ وأسئلة كثيرة تتعلق بنصائح الكتابة، وأحياناً تصلنا نحن الكتّاب، مخطوطات مُنجزة يطلب أصحابها آراءنا بها قبل النشر. في كل مرة، يكون جوابي تقريباً هو ذاته: اكتب نصّك أنت لا نصوص الآخرين. كلّما كنت أنت كان نصّك قوياً. في ( نصّك أنت) هناك الكثير من الخوف، من مواجهة الذات، من عزل المهم عن العادي، من هلع صورتنا لدى الآخر، كل هذه المخاوف تشير صوب الإبداع فالتميز مخيف يعني أنك تخرج عن نصّ الآخر المكرّس والمألوف، لتُخاطر بتقديم بلاهات ربما. هذه البلاهات أو الحماقات أراها شخصياً جذوة الكتابة الحقيقية.
في كل يوم أكتشف كتابة جديدة، كتابة أعجز عن الإتيان بها، من أسماء جديدة مجرّبة، تحاول تطويع الخوف من رأي الآخر. هذه الكتابة هي الرهان الإبداعي كلما حمل النصّ روح صاحبه، كان أقرب إلى روح الآخرين، دون أن يضطر صاحب النص حتى إلى كتابة الأحرف الأولى من اسمه، أو اسمه كاملاً، لأن نصّه يصبح اسمه.
مها حسن ـ كاتبة وروائية سورية
* اللوحة للفنان العراقي جبر علوان
اقرأ أيضاً:
خوفٌ مؤنث على هامش الحرب والمنفى
عن بطاقة الحماية المؤقتة في تركيا