رباب حيدر
“بعد عشرين عامًا من الرواية الأولى “إله الأشياء الصغيرة” عام 1997 والتي حازت على جائزة البوكر في ذات العام، وجائزة حرية الإبداع الثقافية عام 2002، عن أعمالها حول المجتمعات المدنية التي تؤثر فيها سلبًا حكومات العالم؛ يقول هاميش هامبلتون إن الرواية الثانية لأروندهاتي روي، ستصدر في الشهر الخامس من 2017 بعنوان (وزارة السعادة القصوى)”
هكذا ورد الخبر في الغارديان البريطانية في أكتوبر تشرين الثاني 2016: “أنا سعيدة أن أعلن أن الأرواح المجنونة –حتى الشريرة منها- في “وزارة السعادة القصوى” قد وجدت طريقها لعالمنا هذا، وأني وجدت ناشري” تقول روي عن روايتها الجديدة التي ننتظرها، على أمل العودة لعوالمها السحرية.
سبق وأعلنت أروندهاتي –أو سوزان أرونداتي روي-أنها بصدد تأليف روايتها الثانية، وكان هذا في 2005، فحبسنا أنفاسنا نحن “الذين قرأوا إله الأشياء الصغيرة” لكن روي انسحبت إلى مقالات لا علاقة لها بالعالم المتخيل، بل تتابع مقالاتها عن المجتمعات المدنية المتضررة من بيروقراطية مؤسسات الدولة وفسادها واحتكارات الشركات العملاقة.
كل ما سبق يمكن أن تقرأه وتحصل عليه من محرك البحث غوغل. وأن تكتشف كذلك أنّ روايتها المتخيلة الأولى متكئة على السيرة الذاتية للكاتبة التي تنتمي لتجمع صغير يطلق عليهم (المسيحيون السوريون) وهي فئة عريقة وبرجوازية ومغلقة في كيرالا.
وربما كخبر صحفي يجب أن نقول إن الكاتبة رفضت جائزة الإبداع الهندية وأعادتها عام 2005، اعتراضًا منها على الجرائم المروّعة التي يرتكبها الجناح اليميني للحكومة في الهند، والمذابح الجماعية التي تلوّث أيدي الحكومة بالدماء، ولها مقالة تدين فيها التجارب النووية الهندية. وعلينا أن نذكر أنها وقعت خطابًا في الغارديان البريطانية، يسمى “حرب لبنان 2006” دعوة لإدانة إسرائيل ومقاطعتها، مع نعوم تشومسكي وهوارد زين وآخرون.
وكتبت مقالة أخرى في الغارديان، ردًا على القوات الأميركية لاحتلال العراق والتفجيرات في أفغانستان، قالت فيها إن هذه الممارسات ليست انتقامًا من أحداث الحادي عشر من أيلول، بل عمل إرهابي آخر ضد شعوب العالم وحوّلت مرة أخرى البؤس الإنساني لملهاة سوداء “قال الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش “نحن أمة مسالمة” ورد عليه سفير أميركا المفضل توني بلير -ويتولى إضافة لذلك حقيبة رئيس وزراء المملكة المتحدة. ‘نحن أمة مسالمة’ لذلك نحن نعرف الآن أن الخنازير هي الخيول. والفتيات هن الفتيان. والحرب هي السلام “.
في واحدة من مقالاتها في الصحافة الهندية –وهي غانديّة الهوى- تفضح ممارسات واحد من زعماء الحركة فيخرج من المقالة مثل المهرج المبلل بماء قذر -وأيقظت هذه المقالة بالذات حلم أن نحلل الثورة والحراك، أو أن نكتب عن زعيم للنظام ونحن في قلب البلد أو عن زعيم من زعماء المعارضة الأشاوس ونحن في الخارج -ولنقل تركيا مثلاً!
لكن الخبر الحقيقي هو أن السحر الذي أصابنا من الرواية الأولى يعدنا بالعودة.
ملخّص الرواية السابقة تحكي عن دراما عائلية لتوأم (الفتاة راحيل والصبي إسثا)، يلتقيان بعد انفصال قسري وتسترجع الفتاة تفاصيل نشأتها: عائلة جدها لأمها، أخت جدتها التي نذرت نفسها للكنيسة بعد عشق فاشل في المراهقة، أم التوأم المسيحية التي تزوجت هندوسيًا سكيرًا، تركها فيما بعد لتواجه غضب وإهانة عائلتها المسيحية مع طفلين، عشقها لعامل من فئة المحرم لمسهم، أخوها ومطلقته الإنكليزية وطفلتها التي تزوره بعد تسعة أعوام لتلقى مصرعها غرقًا بعد أسبوعين من زيارة الهند. انتحار الأم الشابة، وغرق الشاب المعشوق بعد جلسة تعذيب بوليسية، غرق الطفلة المولدة، وانتهاء الولد التوأم بنفيه النفسي لدى عائلة أبيه، وهجرة بطلة الرواية إلى أميركا.
كانت رواية المحرمات وخرقها والأثمان الكبيرة والأضاحي البشرية المقدمة عندما تكون تابعًا لآلهة مغلقة؛ المحرم الجنسي والديني والاجتماعي، المحرم الآخر من جنسية أو طبقة أو حياة أخرى، الخيبات الناجمة عن قرارات جد قديمة. أصابتنا الرسوم الدقيقة كوشم حاز كل وجوه الشخصيات، بل وفضح وشم أوجهنا والتصق بنا: الروائح التي تحدثت عنها التصقت بذاكرتنا الشميّة، والتفاصيل الدقيقة التي صورتها باتت جزءًا من العدسة التي نرى من خلالها العالم، المحرمات المصنوعة بدقة متناهية كالمصوغات الذهبية في يد العمة العانس، تكسرت لأشلاء بمرآة اللغة إذ الصور الدقيقة ترسم أشياء مفعمة بالجمال الكثيف الخانق.
“لقد بدأ ذلك بالفعل، في الزمن الذي كانت فيه قوانين الحب قد وضعت. القوانين التي تقرر من عليه أن يكون معشوقًا، كيف، وكم.” تقول روي
احتفلت بالرواية الأولى بريطانيا وقراءها ومثقفيها، والصحف الأميركية والقراء هناك، واحتلت قوائم (أكثر الكتب مبيعا) وذلك للتفاصيل الحسيّة والتصوير الساحر لحياة الهند الاجتماعية والذهنية وخرقها للمحرم. كرهتها الأوساط الثقافية الرسمية في الهند لأنها كئيبة وداكنة وتصور المجتمعات المغلقة الكثيفة في الهند -ولأنها خرقت المحرم- لكن قرّاء الهند والباكستان عشقوها. حاول بعض النقاد وصفها بالواقعية السحرية الهندية –أسوة بتلك التي لأميركا اللاتينية- لكنهم لم يفلحوا لأن سحرها كان شيئًا آخر. فكانت الكاتبة الهندية الأولى التي تحصل على جائزة البوكر البريطانية المرموقة.
هل أكثرت من استعمال مفردة “سحر” في هذه المقالة؟
حسنًا، شيء جميل أن تعيدنا لمملكتها المدهشة، وهذا الحدث القديم في لغة الصحافة –تجاوز الأربعة أشهر- يستحق الكتابة عنه ولو متأخرًا. ومعذورون أنّا كنا مشغولين بالألعاب الأممية القذرة للعالم المتحد من حولنا مع بعضنا علينا: وشم آخر صغير على حياتنا التي تفيض بالتفاصيل السّامة أصلاً.
والآن، بانتظار سحر يبعدنا عن هذا الواقع، مرة أخرى.