مصطفى تاج الدين الموسى*
عندما دخلتُ هذه الحانة في أحد الأحياء القديمة، لم يطردني مالكها فورًا كما ظننت، رغم تضايقه من شكلي، لهذا أيقنتُ في سري أنّه لم يعرف من أنا رغم شهرتي بين أصحاب الحانات.
طلبتُ الكثير من الخمر وظللتُ أشربُ حتى ساعةٍ متأخرة من هذا الليل.
ضحكتُ بجنون وأنا أخبر مالك الحانة: إنّني لا أملك نقودًا، عندئذٍ ركلني إلى الخارج لأسقط تحت المطر في بركة ماء، لم أهتم لأمر ركلته، فأنا معتادٌ على ركلات أصحاب الحانات منذ سنوات بعد منتصف كلّ ليلة، نهضتُ وأنا أضحك ومشيتُ مترنحًا ومبللاً بين الأزقة، أدندن بلحن أغنيةٍ قديمة.
ثمّة شيءٌ غريب يحدث الآن لي للمرة الألف!. لا أعرف لماذا كلما شربتُ يضيع مني الجسر الذي أنام في أسفله منذ سنوات؟. لهذا صرتُ أنادي جسري بصوتٍ عال بين الأزقة وأنا أترنح علّه يعثر عليّ.
فجأةً، وبجانب نافورةٍ قديمة في تلك الزاوية، على مقعدٍ خشبي شاهدتُ امرأةً جميلة جالسة بفستانها القصير، وقد اتكأتْ على يدها المستندة فوق حافة المقعد، غير آبهة للمطر.
يا إلهي ما أجملها.. اقتربتُ منها وأنا أخلع معطفي الرث لأرميه بهدوءٍ على كتفيها حتى لا تستيقظ من نومها، فأحميها من المطر، نظرتُ إلى نهديها الناعمين من تحت فستانها وقد شفّ قماشه بسبب ماء المطر فارتعش جسدي.
جثوتُ أمامها ثمَّ حضنتُ ركبتيّها وأنا أقبلهما بنهم، لركبتيها مذاقٌ شهي يصعب على أيّ مخمورٍ في ليل كلِّ هذا العالم أن يشرحه أو يفسره، حتى هذا المطر الغزير ذاته يعجز، بعد القبلة السادسة ثمّة شخصٌ ما من بعيد بدأ يعزف على الكمنجة.
أمعنتُ نظري في ركبتها اليسرى على ضوء مصباح الزقاق، شهقتُ، يا الله ما أجملني!.
وجهي كان واضحًا على رخام ركبتها، كلّ الناس كلّ الأصدقاء كلّ العابرين في حياتي يقولون إنّني بشع، ووجهي دميم للغاية، حتى المرايا التي أنظر فيها تقول إنّني بشع، ركبة هذه المرأة الجميلة هي المرآة الوحيدة الصادقة في هذا العالم، رجعتُ لتقبيل ركبتيّها بحب.
عندئذٍ، انحنتْ هذه المرأة عليّ لتذكرني-همسًا- كيف ماتتْ أمي بردًا، منذ زمنٍ بعيد وهي تتسول لتشتري لرضيعها حليبًا.
ثمَّ دسّتْ أصابعها الناعمة في شعري، وراحتْ تفلّيه من القمل.
لماذا اختفى عازف الكمنجة؟. ابتعدْ، أرجوك ابتعدْ.. كل ليلةٍ تهجم في آخرها على روحي، أرجوك فقط هذه الليلة لا تقترب مني، ابتعدْ يا بكاء.
مسحتُ عن خديّ حبات المطر ودموعي، شتمتُ عازف الكمنجة.
فجأةً لمحتُ عن كثب رجلاً يركض مقتربًا من بعيد وهو يصرخ بجنون:
- ناديا.. ناديا.. نادياااااا..
اقترب منّا وهو بحالةٍ سيئة، كنتُ لا أزال جاثيًا أحضن إلى وجهي ركبة هذه الـ ناديا.
لم يكترث لوجودي، رمى بنفسه على المرأة وحضنها وهو يبكي ويهزها بشدة ويصرخ بقهر وندم:
- لا تموتي يا ناديا.. أرجوك لا تموتي، كان يجب ألا تتركي المنزل وأنتِ مريضة.. أنا كلّ ليلة أشرب ثمّ أشتمك وأطردك، لماذا هذه الليلة بالذات صدقت طردي لك.. لا تموتي، أتوسل إليكِ..
انتبهتُ لذلك اللون الأزرق الذي استباح وجهها، يبدو أنها قد ماتتْ منذ ساعات.
كنّا أربعة، جثة هذه المرأة على المقعد الخشبي، الزوج جانب الجثة وأنا أسفلهما، ومطر الليل.
حملها بعد أن يئس من رجوعها إلى الحياة ومضى وهو يهذي.
لا.. لن أخسر هذه الفرصة، قد أعيش لألف حياةٍ أخرى قبل أن أحصل على فرصةٍ كهذه.
عبرنا الأزقة العتيقة تحت المطر ببطءٍ موحش زقاقًا زقاقًا، وكأننا جنازة متواضعة لهذه الـ ناديا، الحانات الصغيرة ذات الأبواب الموصدة لوّحتْ لنا وكأنّها تودع أرواحها، هو بين يديه جثتها ودموعه وأنا أتقافز حوله كمجنون وأتوسل إليه دون أن يسمعني، ضاع صوتي بين بكائه وبكائي:
- أرجوك.. دعنا نتقاسم هذه الجثة يا صاحبي، سأعطيك معطفي، خذّ أيضًا جسري الذي أسكن تحته.. أقبّل يدك، سأتنازل لك عن حصتي بـ عازف الكمنجة، أرجوك.. لنتقاسمها، لديك في بيتك كل فساتينها، وأكيد هنالك صورٌ ما مشتركة للذكرى بينك وبينها، لنتقاسمْها نحنُ الثلاثة، أصدقاؤها الأخيرون في حياتها، أخذ الموت روحها، خذّ أنتَ كل جسدها، لكن أعطني فقط ركبتها، أريد ركبتها، ركبتها هي الدليل الوحيد في كلِّ هذا العالم على أنّني جميل.
*كاتب سوري